العراق.. تاريخ من الاحتلال والجوار

يحكى أن ملكا أراد أن يعرف تاريخ الأمم فاستدعى وزراءه لذلك، فجابوا البلد طولا وعرضا.
وكان الجهد بعد خمس سنوات، عبارة عن قافلة من الجِمال وقد غطت الأفق حاملة رغبة الملك الذي اشتاط غضبا باحثا عن الاختصار.. فتمخضت المحاولة الثانية بعد سنة بعشرة جِمال تحمل البعض المختصر من تاريخ الأمم. فثار الملك ثانية مهددا كبير وزرائه بالموت أو الاختصار. فأجابه كبير الوزراء.. غدا يا مليكي.

فجاءه في اليوم الثاني بورقة صغيرة وقد كتب عليها مختصر تاريخ الأمم بثلاث كلمات:( ولدوا.. عاشوا.. ماتوا).

بالمقابل يقف المؤرخ المغربي محمد بن أحمد الكنسوسي بمقولته: “من أنكر فضيلة التاريخ فقد تباعد في الجهالة وتوغّل، حتى تحمّر بعد الإنسانية وتبغّل).. فكيف بالتاريخ الذي نحن بصدد صنعه، وصنّاعه كثيرون في زمن (الموضوعية) التي جرفها اشتباك الذات معها مختلطا بالهواجس الأيديولوجية؟

أثناء كتابة هذه السطور

وأنا أعد لهذا المقال استرعت انتباهي (عبارة) يرددها بعض كتّاب ومنظري السياسة الأمريكية بين فترة وأخرى في مقالاتهم بخصوص العراق وهي.. ((أثناء كتابة هذه السطور)).. ربما استخدمت هذه العبارة لصعوبة قراءة المشهد العراقي أو للهروب من أي متغير قد يطيح بالفكرة والتحليل بمجرد الانتهاء من كتابتهما.
وربما أيضا تعمّد واضعو السياسة الأمريكية ذلك لتشتيت أذهان المتابعين لأحداث العراق. والأقرب تصورا هو تعدد الخيارات التي تمتلكها الولايات المتحدة الامريكية لتغيير تكتيكها في العراق بجمع الملفات حينا وتفريدها أحيانا.

المتتبع للحدث العراقي وما يزخر به من تحولات عجيبة تراوده أحيانا ثلاثية: (ولدوا.. عاشوا.. ماتوا) للخلاص من تبعات جمع النقائض.

حاولت الكتابة في أحداث البصرة التي تشدني اليها ذكرى سنة قضيتها في ربوعها. وأحمل لها ما يحمله مظفر النواب في قوله” “أحمل كل البحر وأوصل نفسي، أو تأتي البصرة إن شاء الله، بحكم العشق وأوصلها” … ولكنني رأيت نفسي تدفعني لاقتحام أسوار مواضيع أخرى قد لا تشكل البصرة اليوم فيها – رغم جرحها – أكثر من ومضة في وضح النهار من ضمن مشهد عراقي لا تكفيه جِمال الكون حملا لكاتبها.

لا يمكن فهم الحالة العراقية عموما من دون النظر إليها من زاوية موقف الولايات المتحدة الأمريكية التي تصر على دفع العالم للنظر إلى المشهد العراقي من خلال الزاوية الإيرانية وجدلية العلاقة المحيرة بينهما.  ومع ثلاثية (أمريكا.. العراق.. إيران) يتجلى مشهد نراه في مكنون هذه العلاقات الثلاث.

 العراق من زاوية النظر الأمريكية

تحاول الولايات المتحدة الأمريكية في كل شؤونها الدولية جس النبض لأي متحول تريد اضفاءه من خلال رسائل تكوين الرأي العام بطرح احتماليات وفروض تسبق الحدث.

أثناء إجراء الانتخابات العراقية في 15مايو من هذا العام أطلق السفير الأمريكي في العراق دوغلاس سيليمان تصريحا قال فيه: “إن على جميع الدول المحيطة بالعراق والعالم احترام سيادة البلد، مشددا “لا نود رؤية أي تدخل أو تورط لأي جيران بالشؤون العراقية التي يجب أن تتعامل معها الحكومة”.

يرى البعض احتمالية نجاح الولايات المتحدة حينما قامت بمهام إعداد وتدريب أفراد القوات المسلحة والأمن العراقيين في ربط المنظومة الأمنية والدفاعية العراقية بالعقيدة الأمريكية بعد احتلال العراق، عندما كانت تدعي أنها متنبهة للتدخل الخارجي بشؤون العراق حريصة على الاحتفاظ بمرونة التدخل السريع بشكل منتظم متى اقتضت الحاجة إلى التدخل الأمريكي المباشر في القتال دفاعا عن وجودها ومصالحها في المنطقة. 

بالمقابل أصبح الحفاظ على أمن العراق الخارجي بعيدا عن مهمة الجيش العراقي غير القادر على ذلك أصلا، ما يضطر العراق لأجل حماية أمنه ومصالحه المشتركة الاعتماد على العلاقات الخارجية وقوة المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي توفر له ذلك.

الولايات المتحدة لا تقبل في العراق بأقل من تملكها القيادة والسيطرة. وهناك كانت الرسالة الأخرى ومفادها (عيننا على الجميع) ذلك ما يفسر حضور السفير الأمريكي لجلسة البرلمان العراقي الأولى.

أدوات الضغط الأمريكي لا تحتاج إلى كثير عناء فلم يكن السفير الأمريكي بحاجة إلى أكثر من تلميحه لساسة عراقيين بفتح ملفات دعمهم لـ (الإرهاب والفساد) ليقلب طاولة اتفاقاتهم لتشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر بعد أيام من جلسة برلمانية وصفت بالهزيلة.

أما اقتصاديا فقد استغرب المراقبون تهديد ترمب الحكومة العراقية بقوله: “أنا من سيقضي على الفساد المالي في العراق وسأحاسب المسؤولين العراقيين عنه”.. سيطرة مذهلة!

بعد منعطف البصرة وأحداثها من المتوقع أن يأتي مشهد بعثرة المصفوفات الخادعة، وبما يشبه النتائج التي آلت اليها احتجاجات عام 2013 المطالبة بالكرامة والخدمات لتنقلب إلى حرب على الإرهاب أطاحت بالناس ومدنهم وجعلتهم خارج التاريخ والجغرافية.
وعلى طريقة الكتّاب وأصحاب القرار الأمريكي قولهم (أثناء كتابة هذه السطور) .. يبدو أن مسلسل التفجيرات والمفخخات عادت مرة أخرى من البصرة إلى الأنبار إلى صلاح الدين، وإشارات هذا الأمر تعيد حكاية تنظيم الدولة (داعش) إلى دائرة الحدث على استحياء احتفال العراقيين مع رئيس وزرائهم قبل أشهر بخلو أرض الرافدين من عناصر داعش الى الأبد .

ويبدو أن حكومة كردستان لها رأي آخر بعد تصريحها أن داعش يعيد تنظيم نفسه في المناطق التي انسحبت منها البيشمركة .
الموضوع ذو شجون حيث يتزامن ذلك مع تسمية الجنرال الأمريكي (لاكامرا) قائدا جديدا لقيادة التحالف الدولي في العراق وسوريا، الذي أكد في بغداد أن التحالف الدولي سيواصل دعمه للقوات العراقية في مجال التدريب والتجهيز والتسليح ومكافحة تنظيم داعش. واستمرار الحرب ضد الإرهاب.

العراق من زاوية النظر الإيرانية

بعيدا عن مواضيع أشبعها من سبقنا واشبعناها كتابة على مر سنوات الجمر العراقية منذ الاحتلال الأمريكي للعراق ولم يعد الحديث فيها مثمرا بعد أن استمرأت العديد من التيارات والأحزاب السياسية في العراق وصف التبعية الإيرانية تنظيما وفكرا..  وما هو جديد مضاف يتعلق بالتوجه الإيراني إلى العراق عبر طريقين.. 

أما الطريق الأول فهو إلى كردستان عبر بوابة النار هذه المرة بدّك مقرات الأحزاب الكردية الإيرانية المناوئة لها والتي تتخذ من أربيل مقرا لها، الأمر الذي يجعل العراق الميدان الأكبر بالنسبة لطهران للتعامل مع خصومها والدفع بملفات الضغط عليها إلى الداخل العراقي، مستثمرة زيادة توغلها المتاح لها دوليا دون غيرها مستخدمة حكومة إقليم كردستان أداة سياسية تتيح لها فرصة التحكم بتشكيل الحكومة في بغداد لزيادة المصالح والنفوذ الإيراني؛ مقابل دعم رغبة الأحزاب الكردية في العراق بانتزاع قدر أكبر لهم من الحكم الذاتي والتمويل من الحكومة المركزية إذا رضخت الاحزاب الكردية إلى فكرة تحسين علاقاتها مع سياسيين وأحزاب مرتبطة بإيران في بغداد، وهذا ما يفسر تأرجح المواقف الكردية في حسم تحالفاتها السياسية.

والطريق الثاني لا يختلف كثيرا إذ تحاول إيران أيضا التقرب من المجتمع السنّي في العراق في ظلّ الوضع غير المستقر بل والوضع الهزيل للطبقة السياسية السنية التي توصف بالانتهازية والتي تزامنت مع تخلي المنظومة العربية والإقليمية لهذا المكون وقد فقد قاعدته بعد التنكيل الأمريكي والحكومي عبر سنوات الاحتلال بمدنهم ومستقبل أبنائهم وتسليمهم للتشرد والضياع، الأمر الذي أجادت إيران استغلاله.

العراق بالنظر إلى نفسه

سياسيا يبقى تدوير الكتل والتيارات السياسية على حاله وما أفرزته انتخابات 2018 وتبقى تسمية الرئاسات الثلاث مجرد تحصيل حاصل لا وزن له ولا أهمية في ظل عوامل الحسم غير المرحب به الآن عالميا لأحداث المنطقة التي يمثل العراق قطب الرحا فيها.
ولا قدرة ميدانيا وأمنيا للعراق على مواجهة تحديات الداخل المتمثلة بمواجهة جميع القوى التي تحمل السلاح خارج نظام وسيطرة الدولة، علما أن بعضها وإن بدا غير معاد حاليا ولكنه يمثل الخطر المؤجل مع تنامي قوة الدفع العالمي لاستخدام المنظمات الإرهابية العالمية لتحقيق مصالح الدول الكبرى. يرافق ذلك كله تحديات أمنية مجتمعية تعتبر الأقل خطورة، ولكن عدم القدرة على التعامل معها يضاعف من أزمات المجتمع.

وأرى أنني أختم مقالي بقول الكاتب كارل فون كلاوفيتز: “على المرء أن يفهم السلام الذي يأمل تحقيقه قبل الذهاب إلى الحرب”.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه