الشورى قيمة شرعية وضرورة حضارية

الشورى قيمة إنسانية قديمة وجدت بوجود الإنسان للعيش في الأرض، اتخذها سبيلا للحكم قادة وحكام وملوك ورؤساء قبائل وآباء، وأمر بها الحكماء على مر الدهور، حتى صارت من القيم الإنسانية المستحبة، ومن الدساتير المعروفة ضمنا والتي لا يختلف عليها إلا مستبد أو ظالم، واستمر الأخذ بها فضلا يحفظ الأمم حتى أتي الإسلام ليجعلها شعيرة من شعائر الدين، من يعمل بها يكون من المؤمنين الطائعين، ومن يعطلها أو يعرض عنها فهو آثم حتى يتوب أو يعاقب عليها

مستويات الشورى في القرآن والسنة

تناول القرآن مسألة الشورى على مستويات عدة ليبين تطبيقاتها كجزء من التشريع الإسلامي بدءا من مسألة مشاورة الفتاة في تزويجها، فلا يصح الزواج إلا بقبولها وفي صحيح البخاري (لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن قالوا: يا رسول الله! وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت)

ويمتد أمر الشورى على المستوى الأسري ليشمل علاقة الزوجين أحدهما بالآخر، ثم مسئوليتهما معا عن مصير أبنائهما الذي جعل الولاية عليهم مسئوليتهما معا وليست استئثارا لطرف على حساب طرف آخر، فيقول الله تعالي في سورة البقرة ” فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما ” فمصير الأبناء وتوجيه مسار حياتهم ” عن تراض منهما وتشاور “.

وتنتقل الشورى في القرآن لمستوى آخر حيث الشأن العام ومصالح الناس ومصائرهم ومستقبل أبنائهم وبلادهم ، وإذا كان القرآن يهتم بتلك القيمة علي المستوي الفردي والأسري الضيق ، فالأحرى أن يكون العمل بها علي المستوي العام أشد وجوبا ، فيضعها المشرع الإسلامي في عنوان عميق ليسع كل مسألة تخص المسلمين كبرت أو صغرت فيقول تعالي في سورة سميت باسم ” الشورى إعلاءً وترسيخا لمفهومها ” وأمرهم شوري بينهم “، والله عز وجل يعدد في هذه السورة صفات المؤمنين فيبدأ بالإيمان كقيمة أساسية لا يُقبل عمل صالح بدونها ، ثم يليه بالتوكل علي الله ثم اجتناب الفواحش والمحرمات ، ثم هم مستجيبون لربهم بإقامة الصلاة وإقامتهم مبدأ ” الشورى ” ليأتي في مرتبة أدني منه تزكية أموالهم بالإنفاق في سبيل الله ، فالشورى سمة أساسية وعامة للمجتمع المسلم ومن الأهمية بمكان لتحتل مرتبة بعد إقامة الصلاة لتصير بذلك الترتيب فريضة إسلامية وليست مجرد قيمة إنسانية كما كانت في الأمم السابقة ، وعلي نفس المستوي العام تأتينا آية أخري تبين أن مبدأ الشورى لا يخص الشأن السياسي فقط ، وإنما علي المستوي الدعوي والتربوي فيقول الله تعالي في سورة آل عمران ”  فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ” والخطاب هنا ليس لمحمد الحاكم الذي وهبه الله حكم المسلمين ، وإنما لمحمد النبي الداعية صاحب الرسالة العليا الذي تحركه الرحمة بالناس واللين لهم والمأمور من الله بالاستغفار لمن تبعه منهم ، أمر بمشاورتهم في الأمر ، المشاورة وهو النبي المبلغ من السماء ، النبي الذي يتنزل عليه الوحي يخبره ببواطن الأمر مأمور عليه الصلاة والسلام بمشاورة بشر عاديين لمجرد اتباعهم له وإيمانهم بصدق دعوته ، فقد صار لهم حق الشورى ، ولو كانوا مجرد تابعين ، لو كان هو نبيا ، فالقائد أو المربي  عليه واجب الشورى ، وعلي الآخر واجب الاستجابة لها

وفي إشارة قرآنية لمسألة مشورة الحاكم يضرب الله مثلا بامرأة عادلة وهي ملكة ” سبأ “، ملكة عظيمة في بلاد غنية تستدعي الملأ لتستشيرهم في أمر سليمان، ثم وهي تعرض عليهم المشكلة تبين جوانبها بما تعلله بحكم موقعها ” قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ” فكان جزاء حكمتها أن تكون مع سليمان شريكة في الإيمان، شريكة في ملك بلادها وحكمها.

ممارسة الشورى في عصر النبوة

كانت الشورى ممارسة عملية في كل ما يخص أمور النبي صلي الله عليه وسلم طالما أنه لم يكن هناك أمرا ربانيا واضحا بالفرض أو التحريم، وكانت كلمة ” أشيروا علي أيها الناس ” هي افتتاحية غزوة بدر التي لم يبدأها النبي فعليا إلا بمشورة المهاجرين والأنصار

وفي المعارك والشدائد، غالبا ما يستأثر القائد برأيه ظنا منه أن كثرة الآراء تجلب الاختلاف ومن ثم الهزيمة، فيتخذ رأيه ويمضي فيه، وقد يتجاوز البعض التوقف عند رأيه فقط فيتهم كل من يخالف بالخيانة والعمالة وما إلى ذلك من مصطلحات ترهب صاحب الرأي من الجرأة علي إعلان رأيه خوفا من البطش به أو تخوينه

وفي بدر يأتي الجندي الحباب بن المنذر حين يري رأيا قد يكون غائبا عن القيادة لكثرة انشغالاتها، فيسأل النبي صلي الله عليه وسلم: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدم أو نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فيرد الصادق قائلا: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فيشير الحباب بتغيير مكان المعركة ليكون الماء خلف المسلمين فيصير لهم التحكم به، ويسمع النبي للمشورة، ويتحرك بالجيش إلي حيث أشار الجندي

الجندي يسأل ليطمئن بأنه ليس أمرا مفروضا من السماء، والقائد يصدق جنوده ويسمع لهم ويأخذ بمشورتهم دون كبر أو تسفيه فضلا عن العقاب والاستبعاد والحرمان من الانتماء بدعوي أن الوقت لا يسمح بتلك الرفاهية

وفي الأسري يستشير أصحابه ليأخذ برأي أبي بكر ليؤيد القرآن فيما بعد رأي عمر بقتلهم، والشورى تنمي في الجنود ملكة الإبداع والإقدام، فتلك غزوة الخندق حيث تجتمع الجزيرة العربية على حصار الإسلام في المدينة، ويتقدم سلمان الفارسي ليشير علي النبي بحفر الخندق، فيسارع المسلمون بمشورته لحفره ويشارك النبي عليه الصلاة والسلام بنفسه في أشق العمل، وفي تبوك يأخذ بمشورة عمر بن الخطاب بعدم نحر الإبل لاستخدام ما تخزنه من مياه في الصحراء المقفرة

وللنساء نصيب في الشورى

ولم تحظَ امرأة في أي عصر من العصور بقدر من الاحترام والتقدير والمشاركة الفعلية في كل دقائق الأمور بدءا من البيت وانتهاءً بالدولة وكل ما يحيط بها في السلم والحرب ، وكانت خديجة رضي الله عنها في موقع المستشارة الأولي للنبي صلي الله عليه وسلم منذ اللحظة الأولي لنزول الوحي ، بل وكان لها حق التصرف المطلق حين ذهبت لابن عمها تستشيره في أمر زوجها العائد توا من لقاء جبريل عليه السلام ، وفي الحديبية يكاد يحدث الشقاق بين المسلمين بسبب بنود صلح الحديبية وقرار رجوعهم للمدينة دون أداء العمرة ، لتشير أم سلمة علي النبي أن يخرج أمامهم ولا يحدثهم ويتحلل من إحرامه ، فيبادر الصحابة لتنفيذ فعل النبي بالتحلل من إحرامهم بمشورة أم المؤمنين رضي الله عنها

الشورى كضرورة حضارية

إن ما يحيط بالأمة اليوم من هوان وذل وفقر وضعف ، إن هو إلا ثمرة من ثمرات الاستبداد الذي هو عكس الشورى وعدوها ، وبما أن الدور المنوط بالأمة لما تحمله من منهاج سماوي لم تدنسه تدخلات البشر، بما أن ذلك الدور يستلزم قوتها علي كافة المستويات ، المادية والروحية ، فإنه يصبح لزاما علي أبنائها انتزاع ذلك الحق انتزاعا ليستقيم أمر المسلمين ، وجب علي الشعوب الإسلامية أن تنتفض وتدرك حجم الكارثة التي تمر بها تحت مظلة هؤلاء المستبدين لتفرض علي العالم مفهومًا جديدًا للحضارة ، مفهوما يتسم بعزة المسلم وكرامته واعتزازه بدينه الذي يحمله ومطلوب منه أن يتحرك به بين الأمم منقذا  وهاديا ، لقد أصبح لزاما علي الأمة اليوم أن تستعيد هويتها وقيمها كي تستطيع أن تتفادي عملية الاستبدال والاندثار في التاريخ كما استبدلت أمم وماتت حضارات من قبل ، إن الشورى ليست رفاهية يتخذها من يشاء ويعرض عنها إذا شاء ، إنما هي ضرورة حضارية للفرد والمجتمع والدولة والأمة قاطبة كي تستطيع الاستمرار والريادة وإعادة أمجاد الماضي ، ليس للتفاخر علي الناس ، وإنما إنقاذا لهم من مصير الدمار المحقق إن لم ينهض من هذه الأمة رجال يقيمون الدين ولا يفرطوا فيه 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه