السفارة والحقارة.. احتفال لن يغير واقعا

سفير إسرائيل في القاهرة دافيد جوبرين خلال حفل استقبال نظمته السفارة الإسرائيلية بالقاهرة احتفالا بعيد استقلال دولتهم
سفير إسرائيل في القاهرة دافيد جوبرين خلال حفل استقبال نظمته السفارة الإسرائيلية بالقاهرة احتفالا بعيد استقلال دولتهم

احتفال السفارة الصهيونية بذكرى احتلال فلسطين في قلب عاصمة العروبة “القاهرة” وعلى مشارف ميدان الثورة “التحرير” هو تتويج لزحف الثورة المضادة التي حيكت خططها في تل أبيب.

كجزء من الثورة المضادة، أو بالأحرى كقيادة لها، وكنوع من إعلان الانتصار الكبير لها احتفلت سفارة الكيان الصهيوني في القاهرة مساء الثلاثاء وفي قلب القاهرة بل في فندق يطل إطلالة واسعة على ميدان التحرير من ناحية وعلى نهر النيل من ناحية أخرى بالذكرى السنوية السبعين ليوم النكبة او ما وصفته بعيد الاستقلال.

ولا أدري من هو المحتل الذي استقلوا عنه، وهم الذين جاءوا من مشارق الأرض ومغاربها ليحتلوا أرضا ليست لهم ويطردوا شعب هذه الأرض منه، وهذا الاحتفال الفج ينهي 8 سنوات من الهزيمة ألحقتها بهم ثورة يناير، التي أغلقت سفارتهم ورفعت العلم المصري بدلا من علمهم على شرفة تلك السفارة.

كانت لحظات مفعمة بالثورية الحالمة، والزهو الوطني تلك التي توجه فيها آلاف الثوار إلى مقر السفارة في سبتمبر/أيلول 2011، وتمكنوا من إزالة الحواجز الخرسانية الضخمة أمام المبنى الذي تقع فيه لحمايتها، كنت حاضرا لتلك اللحظات، وشاهدت بنفسي كيف تغلب الشباب بحماسهم الثوري على تلك الكتل الخرسانية الضخمة، وتمكن بعضهم من تسلق البنايات وصولا إلى شرفة السفارة، ونزع العلم الإسرائيلي وتثبيت العلم المصري مكانه، وكنت متابعا لتطورات الاتصالات الإسرائيلية مع المجلس العسكري وقتها، ومع الإدارة الأمريكية لإنقاذ من تبقى من طاقم السفارة داخلها، ولاحقا شاهدت فيديوهات لتغطيات القنوت الإسرائيلية التي أعلنت حالة الطوارئ، ومعها الأجهزة الأمنية والسياسية الإسرائيلية متجاهلين عطلة السبت المقدسة، حتى وصول أولئك الدبلوماسيين إلى فلسطين المحتلة.

كان ذلك واحدا من أهم مشاهد ثورة يناير العظيمة التي جعلت القضية الفلسطينية أحد عناوينها الرئيسية منذ أيامها الأولى إذ غطت الأعلام الفلسطينية سماء ميدان التحرير إلى جوار العلم المصري طيلة أيام الثورة، وكان حصار السفارة واقتحامها هو تأكيد للموقف الشعبي المصري الرافض للتطبيع، وكان هو الرد السريع على عدوان إسرائيلي سابق على غزة، وعدوان آخر على الحدود المصرية أوقع بعض الجنود المصريين قتلى، وهو حادث اعتذرت عنه سلطات الاحتلال لكن ذلك لم يكن كافيا للشعب.

السفارة في العمارة 
من مفاخري الصحفية تحقيق صحفي أجريته أواخر التسعينات حول السفارة الإسرائيلية ومعاناة جيرانها من السكان المصريين بسببها، وقادني ذلك التحقيق لدخول البناية التي تقع بها السفارة في ضيافة أحد المصريين من جيران السفارة، حتى أتمكن من تجاوز الحواجز والإجراءات الأمنية، وقد التقيت ببعض أولئك السكان الذي أفاضوا في شرح معاناتهم، وبالذات عند قدوم ضيوف صهاينة، وأيضا عند استقبال أقاربهم وضيوفهم الذين يتعرضون لاستجوابات أمنية في الدخول والخروج، وشرحوا لي العوار القانوني لعقد تأجير الشقة للسفارة والذي لجأوا بسببه للقضاء دون جدوى، وتعرضهم لمخاطر أمنية بسبب وجود السفارة في برج سكني حيث سبق أن أطلقت عليها قذائف هاون من مبنى مجاور فلم تصبها لكنها أصابت شقة مجاورة، وقد كان تحقيقي الصحفي مصدرا أساسيا لفيلم السفارة في العمارة الذي أنتج عام 2005 ولعب بطولته الفنان عادل إمام.

كانت السفارة الإسرائيلية والدبلوماسيون الصهاينة محل ازدراء من المصريين دوما، ولم تستطع السفارة منذ افتتاحها في مصر عقب اتفاقية كامب ديفيد 1978 تنظيم أي احتفال علني، أو تنظيم أي مناسبة أخرى علنية، وكانت تكتفي بتنظيم تلك الاحتفالات بشكل غير معلن داخل جدرانها، وتدعوا لها نفرا قليلا من المصريين “المتصهينين”، وكان هؤلاء يخشون دوما أن تصل صورهم في تلك الاحتفالات لوسائل الإعلام حتى لا يتعرضون للانتقام الشعبي.

قنص واغتيال 
فقد حدث بالفعل أن تعرض بعض المصريين الذين سافروا للعمل في إسرائيل لاعتداءات بدنية من الأهالي عقب عودتهم إلى مصر، كما تعرض عدد من الدبلوماسيين الصهاينة لعمليات قنص واغتيال على يد تنظيم ثورة مصر منذ منتصف الثمانينات مثل زيفي كيدار مستشار الأمن في السفارة، والبرت أتراكشى، أحد رجال الموساد في القاهرة والمسؤول عن فقىء أعين الأسرى المصريين أثناء حرب السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1973، وإيلى تايلور مديرة الجناح الإسرائيلي بالمعرض الصناعي، وغيرهم.

ظل رفض التطبيع مع الصهاينة عقيدة راسخة لدى المصريين، ولم يستطع نظاما الرئيسين السابقين أنور السادات وحسني مبارك إقناع الشعب المصري بالتطبيع، واكتفى النظام بتخصيص وزارة الزراعة للقيام بالمهمة القذرة، بحجة جلب التكنولوجيا الإسرائيلية الحديثة في الزراعة رغم أن مصر أقدم بلد زراعي في العالم، ومع ذلك تعثرت الوزارة في مهمتها. 

وكان الاعتداء البدني والمعنوي على العمال  الذين سافروا للعمل في المستوطنات ضمن تلك المهمة نموذجا للضجر الشعبي المصري بالتطبيع والمطبعين، وعلى مستوى المثقفين المصريين والطبقات الوسطى كان الرفض أشد، إذ أصدرت النقابات المهنية والعمالية قرارات من جمعياتها العمومية برفض التطبيع، ولم يستطع رجال الحكومة مثل مكرم محمد أحمد إلغاء قرار “عمومية الصحفيين”، بل أحالت النقابة عددا من الصحفيين الذين سافروا إلى الكيان الصهيوني في مهمات صحفية للتحقيق.

ووقف المثقفون المصريون صفا منيعا ضد التطبيع باستثناءات نادرة مثل حالة علي سالم الذي أصبح موصوفا بأديب التطبيع، وشاركت الكنيسة المصرية في عهد البابا شنودة في مواجهة التطبيع، ورفضت السماح للمسيحيين بزيارة القدس، حتى وصف شنودة ببابا العرب، وتصاعدت حدة الرفض الشعبي والرسمي عقب ثورة 25 يناير والتي كان من أبرز مظاهرها محاصرة واقتحام السفارة، وطرد البعثة الدبلوماسية من مصر، وتفجير خط الغاز إلى الكيان الصهيوني مرات عديدة، وزيارة رئيس الوزراء المصري هشام قنديل إلى غزة أثناء العدوان الإسرائيلي عليها في 2012، ومقولة الرئيس المصري محمد مرسي: “لن نترك غزة وحدها”، ما دفع الصهاينة لوقف عدوانهم عليها.

احتفال السفارة الصهيونية بذكرى احتلال فلسطين في قلب عاصمة العروبة “القاهرة” وعلى مشارف ميدان الثورة “التحرير” هو تتويج لزحف الثورة المضادة التي حيكت خططها في تل أبيب، وبدعم سياسي قوي منها، ومن الجماعات المناصرة لها والحكومات الخليجية المتحالفة سرا أو علنا معها، وكذا بعض القطاعات الشعبية المصرية المتضررة من الثورة، وكأن هذا التحالف الشيطاني يخرج لسانه لثورة يناير ولسان حاله يقول “ها قد عدنا يا ثوار يناير”، لكن الحقيقة ستظل ثابتة وراسخة وهي الرفض الشعبي للتطبيع حتى لو نظمت سفارة العدو ألف احتفال، فلن تستطيع فك هذا الحصار الشعبي لها، ولن يستطيع أي سائح أو دبلوماسي صهيوني التحرك بشكل طبيعي وسط المصريين طالما ظل الاحتلال لفلسطين قائما. 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه