الجنرال وسياسة “وش القفص”!

وفي أعلى القفص كانت أكذوبة كبرى قدمها الجنرال ممزوجة بكلمات مغمورة في دموع التماسيح، أكد فيها أنه لا يطمع في الحكم، ولن يرشح نفسه أبداً للحكم، متمسكا بدوره كعسكري يحمي الوطن.

 

عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسول الله مرَّ على صبرة طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللًا. فقال: “ما هذا يا صاحب الطَّعام”؟ قال: أصابته السَّماء يا رسول الله. قال: “أفلا جعلته فوق الطَّعام كي يراه النَّاس؟ من غشَّ فليس منِّي”.

  ما أجمل أن أبدأ مقالي مسترشدا بحكمة رسول الله وتعاليمه، حقا يا رسول الله الغش آفة الإنسانية وتزداد مخاطره لو مارسه أولو الأمر والمسئولون عن مجتمع.

من مصطلحات باعة الفواكه والخضراوات في الأسواق المصرية مصطلح “توشيش القفص”؛ وهو يعني وضع المحاصيل السليمة فوق المحاصيل الفاسدة لخداع المشتري.

والحقيقة أن “التوشيش” أسلوب لا يقتصر فقط على مجتمع الباعة والأسواق، ولكنه يمتد لكثير من جوانب الحياة، مثل حالات “التوشيش” أو الخديعة في الزواج، أو في التعاقدات الوظيفية وغيرها كثير، إلا أن أخطر أنواع “التوشيش” ما مارسه الجنرال على الشعب المصري في مشاهد كثيرة، منذ ظهوره على مسرح الحياة السياسية.

الانقلاب الدموي

“التوشيشة” الأولى عندما ظهر كوزير الدفاع المنقذ لمصر من حكم الإخوان، ووضع على “وش القفص” روايات وأوهاما ومشاهد مدبرة عن مؤامرات تحيط بالوطن تستلزم عزل الرئيس المنتخب، وتنصيب حكومة ورئيس مؤقت لحين إجراء انتخابات رئاسية جديدة ..
وابتلع كثير من المصريين الطُعم بفعل الارتباك المتعمد الذي فرضته مخابرات النظام العسكري وعملاؤه في الإعلام، وفي أعلى القفص كانت أكذوبة كبرى قدمها الجنرال ممزوجة بكلمات مغمورة في دموع التماسيح، أكد فيها أنه لا يطمع في الحكم، ولن يرشح نفسه أبداً للحكم، متمسكا بدوره كعسكري يحمي الوطن من المخاطر.

أما الجزء المختفي من القفص فكان يحتوي على السلعة المغشوشة، وظهر فيه البلل والعفن عندما رشح الجنرال نفسه لرئاسة البلاد من خلال مبايعات وهمية ركيكة وسخيفة، واستلقى على الحكم بعد عملية انتخابية زائفة المشاهد والمحتوى.

“التوشيشة” الثانية عندما بدأ الجنرال عهده بكلمات دافئة وعين دامعة عن الشعب المفتقد لحنان الحاكم والمظلوم بقسوة الحكم، وجاء الجزء المختفي من هذه “التوشيشة” ليحمل كلمات المن والقسوة والعنف “أنتم فقراء قوي”، “ماعنديش حاجة أديها لكم”، “كروشكم كبيرة”، “لازم نجوع” ..
وكانت هذه الكلمات إشارة البدء لتنفيذ سياسات رفع الأسعار والتجويع وفرض الضرائب والرسوم وتقليل ميزانيات التعليم والصحة، وكل هذا كان موجه لفئات الشعب الفقيرة والمتوسطة، في حين كان الوضع معكوسا، بل كان يحمل حالة رخاء مبالغ فيها لرجال النظام وحلفائه من رجال أعمال وإعلام وأمن ..
في مقابل تشكيلهم لحلف قمعي لفئات الشعب المنهوبة والمظلومة والمسروق كدها وآمالها في حياة كريمة، ومحاصرتهم في دائرة من السجون والمعتقلات والتشريد والمطاردات والقتل والخطف والحاجة والعّوز.

“التوشيشة” الثالثة وفيها “وش القفص” يحمل وعودا بمشروعات تنموية ستغير من وجه مصر، بدأت بتفريعة وهمية لقناة السويس، جمع الجنرال تكلفتها من جنيهات هي مدخرات البسطاء التي كانوا يحتمون بها من غدر الزمان دفعوها عن طيب خاطر تحت تأثير دعايات وهمية بنهضة الوطن وضمانات بنكية بفوائد مرتفعة ..
وتحت “الوش” الصالح كانت المصائب المختفية، إذ انهارت العملة مع انهيار الاقتصاد وانهارت قيمة الفوائد ولم تظهر للتفريعة أية كرامات على الدخل القومي، أما المبالغ الكبيرة التي دفعها الشعب من عرقه، والتي لم تناسب هزال المشروع العليل مع ضخامتها فلم يعرف أحد مصيرها ..
حتى أعلنت الدولة عن مشروع العاصمة الجديدة التي يتم تصميمها وإنشاؤها على أعلى مستوى من الفخامة والتكلفة؛ لتصبح قلعة الصفوة والأثرياء والحكام وحرس النظام، في مقابل حملات تهجير قسري لسكان المناطق العشوائية التي تقع في مناطق متميزة، مثل مثلث ماسبيرو وجزيرة الدهب وغيرها دون تعويضات ملائمة وتحت دعاوى إقامة مشروعات قومية ..
وفي الحقيقة كان الهدف تمليكها لمستثمرين عرب يساهمون في التخطيط الجديد لتقسيم الوطن إلى قسمين؛ قسم للسادة وقسم للعبيد على طريقة إقطاعيات العصور الوسطي وتصبح مصر مصرين، مصر العشش ومصر القصور.

أما أحدث “توشيشة” هي التي أرسلها الجنرال للعالم الخارجي بهدف تصدير صورة عن مصر ظاهرها الجمال والنظام والنسق الحضاري، بينما باطنها المختفي الفقر والعشوائية والضياع، فأصدر قراره الأخير بإلزام أصحاب البيوت وسكانها بطلاء واجهات البيوت لإضفاء شكل حضاري على الوطن، بصرف النظر عن حقيقة الأوضاع الاقتصادية لسكان هذه البيوت واحتياجاتهم ..
ومع تجاهل الاحتياجات الحقيقية لهذه المناطق والبيوت التي يعيش سكانها تحت تهديد المرض والموت؛ بسبب خلل شبكات الصرف الصحي بل وانعدام وجودها في بعض المناطق، وانقطاع المياه العذبة عن السكان مدد تصل لشهور، وتراجع مستوى التعليم والخدمات الصحية بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية.
والملفت في قرار الجنرال أنه حمّل تكلفة الدهانات لأصحاب العقارات؛ رغم أوضاعهم المتردية ورغم أنهم من دافعي الضرائب الباهظة، وأصبح قرار الجنرال عبئا على المواطن المنهك والمعدم، سواء بتكلفة تنفيذه أو بغرامة عدم تنفيذه، وهي الغرامات التي ستوجه حصيلتها لصالح مشروعات عاصمة الصفوة والسادة .

الحقيقة

 المدهش ظهور أصوات إعلامية تطالب الجنرال بكسر الدستور وتجاوزه أو تعديله، والترشح لفترة رئاسة ثالثة؛ لاستكمال إنجازاته، والحقيقة الرجل لم يعرض هذا الأمر، بل هو مطلب من رجاله الأوفياء وشعبه الخاص، والحقيقة أيضاً، أن هذا مطلب استثنائي يمكن أن يكون مقبولا لو كانت هناك بالفعل إنجازات ستغير وجه الوطن وتحتاج للاستكمال ..
ولهذا دعونا نناقش الأمر طبقا للمعيار الذي اختاره أصحاب الاقتراح، وهو معيار الإنجازات، وهو نفس المعيار الذي كان مبررا لعزل الرئيس المنتخب من منصبه بعد عام واحد من حكمه، مع الوضع في الاعتبار أننا سنتناول إنجازات الجنرال بعد خمسة أعوام من حكمه.

– الجنرال اتخذ قرار تحرير سعر الصرف، الذي تسبب في رفع سعر الدولار من سبعة جنيهات إلى 19 جنيهًا. 

– الجنرال تسلم الحكم عام 2014، وكان الدين الخارجي 46.1 مليار دولار، وفي عام 2018 وصل لثمانين مليار دولار.

– الجنرال طبق أسرع خطوات لرفع الدعم عن السلع والخدمات، استجابةً لشروط صندوق النقد الدولي، مما زاد الأعباء على الشعب خاصة الفقراء.

– الجنرال لم يقم بإنشاء أي مشروع إنتاجي لرفع قيمة العملة المحلية وتعتمد مصر على الخارج في استيراد 75% من السلع الغذائية.

– في عهد الجنرال تجاوز الدين الداخلي 3.1 تريليون جنيه، وهو رقم يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي بمراحل.

– في عهد الجنرال وصلت حالات القتل خارج القانون إلى عدة آلاف، حددها بعض المراكز الحقوقية بـ 4400 حالة، في حين يتعرض العشرات وربما أكثر للاختفاء القسري شهريا.

لن أطيل في رصد إنجازات الجنرال في خمس سنوات وازدياد عدد المعتقلين وعودة ظاهرة التعذيب في الأقسام وعسكرة الدولة و.. و..،  وسأكتفي بهذه الإشارات لوضعها في مقارنة مع السبب الرئيسي لعزل الرئيس المنتخب وتنصيب الجنرال مكانه وهو انقطاع التيار الكهربائي.

هذه هي أهم ملامح إنجازات الجنرال التي يريد رجاله استمراره في الحكم لاستكمالها، فلنفكر فيها سويا مسترشدين بوصية رسول الله “من غشنا فليس منا”.         

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه