اختطاف خاشقجي وتداعياته على العلاقات التركية السعودية

 

غموض كبير ما زال يكتنف مصير الصحفي السعودي جمال خاشقجي الذي اختفى في ظروف غامضة عقب زيارة قام بها إلى قنصلية بلاده بإسطنبول ظهيرة الثلاثاء (2 أكتوبر/تشرين الأول) لإنهاء بعض المعاملات الرسمية، وحتى كتابة هذه السطور لا يبدو في الأفق ثمة حل.

وقد عكس حجم التعاطف والتفاعل الواسعيين، مكانة الرجل في عالم الصحافة .. فخاشقجي صحفي له شهرته الكبيرة وعلاقاته الدولية الواسعة، ويكتب بانتظام في جريدة واشنطن بوست الأمريكية..
كما كان كاتباً في العديد من الصحف السعودية الكبرى قبل أن يتم منعه من الكتابة فيها قبل حوالي عامين ..وعمل أيضا مستشارا لرئيس جهاز الاستخبارات السعودية الأسبق، السفير السابق تركي الفيصل.

ومن هنا اكتسبت القضية بعدا دوليا كبيرا، خاصة أن واقعة الاختفاء تركت علامات استفهام كبيرة حول التورط الواضح للنظام السعودي في اختطافه وربما التخلص منه لاحقا أو تهريبه إلى السعودية.

عملية الاختطاف تركت علامات استفهام كبيرة على الأسباب التي دفعت النظام السعودي للإقدام على تلك الخطوة، خاصة أن خاشقجي حرص منذ تركه السعودية على الإبقاء على حبال الودِّ بينه وبين الرياض، خاصة ولي العهد محمد بن سلمان ..
وكان ناصحاً أقرب منه معارضاً، بل حرص في العديد من كتاباته على الإشادة برؤية ولي العهد (٢٠٣٠) وكان يحث السعوديين على الالتفاف حولها.

وفي انتظار ما ستنتهي إليه التحقيقات، وما سيؤول إليه مصير الرجل، فإن ثمة تساؤلات عريضة فرضت نفسها منذ الوهلة الأولى، على تداعيات عملية الاختطاف على العلاقات التركية السعودية..
وهل يمكن أن تؤدي إلى قطع “شعرة معاوية” التي حرصت أنقرة على إبقائها خلال السنتين الأخيرتين بصفة خاصة؟!!

هل كان اختيار إسطنبول مقصودا لذاته؟

تأكيدا لم يغب عن متخذ القرار في الرياض أن اختطاف خاشقجي سيجلب متاعب خطيرة على العلاقات مع تركيا، خاصة وأنها تعاني تراجعا ملحوظا منذ محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، في يوليو/تموز ٢٠١٦، وتورط وسائل إعلام مملوكة لسعوديين في الترويج للانقلاب بقوة في ساعاته الأولى بالتضامن مع أخرى مملوكة لدولة الإمارات العربية.

ثم التدخلات السعودية غير المفهومة في ملف شمال سوريا ودعم الميليشيات الانفصالية التي تمثل أذرعا لحزب العمال الكردستاني (PKK)، والتي توجت بزيارة مثيرة قام بها وزير الدولة السعودي المسؤول عن ملف الخليج ثامر السبهان في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي إلى محافظة الرقة برفقة منسق العمليات ضد داعش داخل التحالف الدولي الأمريكي بريت ماكغورك، ولقاء مسؤولي حزب الاتحاد الديمقراطي ((PYD الأمر الذي أثار استياء كبيرا لدى أنقرة التي حرصت في علاقتها على الفصل بين الرياض وأبوظبي.
فبينما هاجمت الأخيرة بشكل واضح عقب إعادة وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد، نشر تغريدة مسيئة للقائد العثماني فخر الدين باشا، ثم التأكيد الواضح لوزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو على دور الإمارات في عملية الانقلاب الفاشلة.

حرص أنقرة على منع تدهور علاقتها مع الرياض تجلى كذلك في أزمة حصار قطر، فرغم رفض تركيا الحصار، ومسارعتها بإرسال قوات عسكرية إلى قطر، ساهمت في منع اجتياح عسكري لقطر من قبل الدول الأربع، رغم كل ذلك إلا أن تركيا حرصت على التواصل مع السعودية، وخاطب أردوغان الملك سلمان، في محاولة لإنهاء الأزمة.

في مقابل ذلك شنت وسائل إعلام سعودية هجوما شديدا على تركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان .. هجوم لم يقتصر على وسائل الإعلام السعودية التي تبث من خارج المملكة، بل امتدت إلى منصات إعلامية داخلية، وفي بلد تجري فيه الرقابة على كل شيء، فإنه لا يمكن تصور صدور مثل هذا الهجوم دون تعليمات رسمية.

وفي ظل هذه العلاقات المأزومة، فإن اختيار إسطنبول لتنفيذ عملية الاختطاف يبدو أن الرياض أرادت منه إرسال عدة رسائل إلى أنقرة:

  • وضع العلاقات السعودية التركية على المحك، خاصة وأن تركيا تدرك أن سكوتها على مثل هذا التصرف قد يفتح الباب أمام عمليات مشابهة من عواصم عربية أخرى يهمهما استعادة معارضين لها موجودين في الأراضي التركية، وفي مقدمة تلك العواصم القاهرة وأبو ظبي ودمشق.. وغيرهم.
  • إحراج تركيا أمام آلاف المعارضين العرب الذين يتخذون من أراضيها مأوى لهم، وتشويه الصورة الذهنية لها كنصير ومؤيد لثورات الربيع العربي.
  • حمل كثير من المستثمرين العرب، الذين فروا بأموالهم من بلادهم، وافتتحوا مشروعات استثمارية في تركيا على مغادرتها وسحب استثماراتهم منها.
  • التحضير لتداعيات أوسع وأشمل قد تشهدها المنطقة ويراد جرُّ تركيا إليها، حيث كشفت صحيفة واشنطن بوست عن طلب تقدم به الملك سلمان للرئيس الأمريكي دونالد ترمب، للمساعدة في شن حرب وصفتها الجريدة بأنها سرية للغاية إلا أن ترمب اشترط دفع مبلغ أربعة مليارات دولار. دون الكشف عن ماهية تلك الحرب ولا الدولة المستهدفة.
ظلال اختطاف خاشقجي على علاقة البلدين:

رغم الحرص التركي الواضح على عدم تدهور علاقتها بالسعودية إلا أن المتابع لمسار الأزمة حتى الآن يلحظ بسهولة أن أنقرة قررت المضي قدما في الكشف عن مصير جمال خاشقجي، وعدم التستر على الجريمة.

فقد أكد المتحدث الرسمي باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن، عقب اجتماع وزاري برئاسة أردوغان مساء الأربعاء الماضي، وفي أول رد فعل رسمي، أن خاشقجي موجود داخل القنصلية السعودية بإسطنبول ليرد بذلك على تصريحات أدلى بها مسؤول سعودي لرويترز في وقت سابق من اليوم ذاته، وأشار فيها إلى أن خاشقجي غادر القنصلية عقب عشرين دقيقة قضاها داخلها لاستيفاء بعض الأوراق.

تصريحات قالن عكست رفضا ضمنيا للرواية السعودية، وإصرارا على معرفة مصير خاشقجي.

لكن القنصلية السعودية عادت وأكدت في اليوم التالي حرصها على التواصل مع السلطات التركية للكشف عن ملابسات اختفاء خاشقجي عقب خروجه من القنصلية!!

ومن هنا فإن سيناريو ظهور خاشقجي مجددا، قد يكون الحل الأمثل لتخفيف حدة التوتر المتوقعة بين البلدين، وعندها سيكون من السهل الاتفاق على رواية تحفظ ماء وجه الجانب السعودي أمام الرأي العام.

أما السيناريو الآخر فلا يعني سوى تصفية الرجل وإخفائه إلى الأبد إذ يستحيل أن تقدم السلطات السعودية على إظهاره مجددا، سواء في الرياض إن كانت قد نجحت في تهريبه قبل إبلاغ خطيبته السلطات التركية، أو حتى داخل القنصلية والإصرار على احتجازه، وهذا السيناريو المفزع لا يعني إلا قطع “شعرة معاوية” التي حرصت تركيا على الحفاظ عليها طيلة الفترة الماضية، في ظل إجراءات قانونية ودبلوماسية متوقعة من جانب أنقرة.

    

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه