مخابرات ألمانيا الشرقية: حقبة سوداء ودهاء شيطاني (1)

توقيع اتفاقية هلسنكي للأمن والعمل الأوربي المشترك

مع الذكرى الثلاثين لسقوط جدار برلين الفاصل بين ألمانيا الشرقية والغربية، ينشر موقع الجزيرة مباشر سلسلة تقارير عن أسرار مخابرات ألمانيا الشرقية، وخاصة عملية “التحليل” المخابراتية.

واعتمدت هذه التقارير على عدد كبير من المصادر باللغة الألمانية من مقالات وتقارير وأفلام وثائقية، لاستقاء المعلومات عن العمليات المعقدة التي كان ينفذها جهاز مخابرات ألمانيا الشرقية طوال عقود، قبل سقوط جدار برلين وإعادة توحيد ألمانيا. 

مقدمة

إنه الأول من أغسطس/ آب عام 1975، كان رئيس ألمانيا الشرقية إيريش هونيكر، مدركا تماما أن اللحظات القادمة التي سيصافح فيها زعماء الدول الأخرى في مؤتمر الأمن والعمل الأوربي المشترك في هلسنكي، ستحكم على العمل الاستخباري التقليدي في ألمانيا الشرقية بالموت إلى الأبد.

ولربما كانت اللحظة الأكثر صعوبة على هونيكر هي لحظة مصافحته لنظيره الألماني هيلموت شميدت، مستشار ألمانيا الغربية، الجارة اللصيقة، والمنافِسة الشرسة، والكابوس الحاضر دائما في وجدان القيادة الألمانية الشرقية.

لقد مر عامان على إنجاز هونيكر الأكثر أهمية، وهو توقيع جمهورية ألمانيا الديمقراطية المعروفة باسم ألمانيا الشرقية على ميثاق الأمم المتحدة، لتصبح أخيرا دولة كاملة العضوية فيها، معترَفاً بها في العالم بعد سنوات من العزلة.

لقد آن الأوان لمزيد من الاعتراف الدولي، للانفتاح على الجيران في الغرب، لبعض الانتعاش الاقتصادي، الذي قد يثني المواطنين عن حلم الهروب إلى ألمانيا الغربية. وكلُّ ذلك ستجلبه الاتفاقية الجديدة، ولكن الاتفاقية الواعدة بالمكتسبات ستلزمه مقابل ذلك –للأسف- بحماية حقوق الإنسان وصيانة الحريات العامة لمواطني دولته.

فهل يمكن ترويض أكثر أجهزة المخابرات شراسة وهيمنة في العالم؟ وهل يمكن أصلا الحفاظُ على الاستقرار السياسي في ألمانيا الشرقية، والذي أرساه عهد الإرهاب المفتوح للرئيس السابق والتر أولبريشت، لو فُتحت بوابات التعبير وهُدمت سدود القمع؟

كان هونيكر في قرارة نفسه يعرف الإجابة جيدا، وكان يعرف أن أمام جهاز مخابراته عهداً جديد من التحديات، عليه مواجهتها من دون الاستعانة بأساليب القمع القديمة، المستندة إلى الأحكام القضائية وقوانين العقوبات، بدءا من الاعتقال وحتى الإعدام!

كان على هونيكر بشكل أو بآخر أن يجد حلا لهذه المعادلة المستحيلة، لأن عيون الجميع ستُصوب على دولته، للتحقق من تطبيق مخرجات المؤتمر حسب الاتفاق، وبالذات منظمة هيومن رايتس ووتش وجماعات هلسنكي الوليدة، وقبلهم جميعا بالطبع، الجارةُ الغربية اللصيقة، التي لا تفوت لجارتها الشرقية أية غلطة. إن سمعة ألمانيا الشرقية أصبحت على المحك!

ولكن إيريش ميلكه وزير أمن الدولة المحنك في ألمانيا الشرقية كان لها بحق، وأثبت لزعيمه أنه رجل المهمات الصعبة، فبعد مرور سنة واحدة فقط على توقيع اتفاقية هلسنكي، كانت وزارة أمن الدولة في ألمانيا الشرقية، والمعروفة اختصارا بـ “شتازي”، قد أصدرت لحل هذه المشكلة كتيبَ التعليمات سيئ السمعة رقم 176.

صورة كتيب التعليمات رقم 176 (ويكيبيديا)
ما هي طريقة “التحليل”؟

لم تكن تنقص وزير أمن الدولة سوى الفكرة لإصدار هذا الكتيب، أما التطبيق فلن تجد أجهزة المخابرات أية صعوبة فيه، لأن دولة ألمانيا الشرقية بجميع مؤسساتها كانت مخترقة من قبل المخابرات، ولأن الحياة السياسية والمدنية فيها كانت واقعة تحت تحكم ورقابة دقيقة وواسعة النطاق، ولكن إلى أي مدى شطح الخيال بميلكه؟ سيجيب عن ذلك اسم العملية الاستخبارية الشيطانية التي تضمن هذا الكتيب شرحها ألا وهو Zersetzung.

إن الترجمة الحرفية لهذه الكلمة الألمانية هي بالمفهوم الكيميائي “التحلل أو التحليل”، فإن استدعيتَ من المعاجم الإلكترونية أمثلة عن هذه الكلمة، تأتيك عبارات من مثل: “الأحماض تحلل المعادن” أو “التعفن حللَّ الجثة”. فكيف يمكن لمفهوم كيميائي كهذا، أن يجد طريقه إلى كتيب تعليمات استخباري، يُفترض أنه وضع لتجنيب الدولة استخدام العنف مع معارضيها؟

إن الشتازي لم تكن بالتأكيد تريد تحليل معارضيها بصب الأحماض الحارقة على أجسادهم، لمنعهم من ممارسة أي نشاط معادٍ للدولة، بل كانت تطمح للوصول إلى النتيجة نفسها من دون استخدام أدنى مقدار من العنف، ومن دون أن يكون للمخابرات أي ظهور في الصورة، بحيث تتمكن من خلف الستار من تحليل “أرواحهم” وإيصالهم إلى مرحلة التفتت النفسي من الداخل، ليصبحوا عاجزين عن القيام بأي نشاط معادٍ للدولة، إن لم ينته الأمر بهم إلى الانتحار.

رئيس ألمانيا الشرقية إيريش هونيكر (ويكيبيديا)
أركان عملية التحليل

ولتدمير الخصم بهذا الشكل المتقن الخفي، والمحبوكِ بحرفية عالية، اعتمد جهاز شتازي على ثلاثة أركان رئيسية تُعتبر أركان عملية “التحليل”:

  • أولها فرعٌ خاص من علم النفس يدعى بـ “علم النفس العملياتي”، والذي تم تطويره وتدريسه في كلية الحقوق التابعة لوزارة أمن الدولة في بوتسدام.
  • وثانيها مؤسساتُ الدولة والمجتمع المدني الخاضعة لسيطرة حكومية شاملة.
  • وثالثها هو شبكةٌ من الموظفين غير الرسميين أو اختصارا IM، والذين كانوا أكثر قيمة بكثير في العمل الاستخباري من موظفي أمن الدولة الرسميين أنفسهم.

كان بوسع جهاز شتازي تسخير هذه الأركان الثلاثة بكل يسر لإحداث أذى نفسي بالغ لأعدائه، من دون أن يظهر من خلف الستار على الإطلاق، إلا حين تتطلبُ الخطة عكس ذلك، لممارسة مزيد من الضغط النفسي على الضحية، ولكنه كان غالبا يعمل في الخفاء، ليبدو الأمر وكأن الضحية في مواجهة مع قدره، وكأن العالم كله يتآمر بمزيج غريب من المصادفات لإلحاق الضرر به، وحين نقول “العالم كله”، فإننا نعني ذلك بالمعنى الحرفي، فقد كان بوسع شتازي أن يستهدف ضحيته في مكان عمله، وفي جامعته، وفي المشفى الذي يتعالج فيها، وفي النادي الرياضي المنتسب إليه، وفي الكنيسة التي يزورها، وفي مصلحة البريد التي يرسل عبرها رسائله، وعن طريق جيرانه وأصدقائه وأقربائه، وأحيانا أيضا عن طريق زوجه أو زوجته، ليجد الضحية نفسه في مواجهة سلسلة من المصائب والإخفاقات والفضائح والمشاكل العائلية، من دون أن يستطيع الربط بين كل ذلك، ومن دون أن يخطر في باله أن كل ما يجري هو من تدبير الشتازي!

وكان غياب الشتازي عن مسرح الأحداث يضمن تدمير الضحية وشل نشاطاته المعارضة، من دون المساس بسمعة ألمانيا الشرقية، لأن الضحية غالبا ما سيتوقف عن ممارسة أي نشاط سياسي من تلقاء نفسه، عند غرقه في دوامة من المصائب الشخصية المتلاحقة. ولكن أهمية عمل الشتازي من خلف الستار تكمن أيضا في سلب الضحية أي دافع للمقاومة، لأن معرفته بوقوف الشتازي وراء ما يجري كانت لتجعله يتعرف إلى خصمه، ويدرك أنه مستهدفٌ لعمله في سبيل قضيته. أما وأنه يحارب طواحينَ الهواء وأشباحَها في معاركٍ خاليةٍ من المنطق، فإن هذا سيفقده حماسه للنضال، وسيضعف مناعته النفسية إلى أبعد حد.

أما كيف كان جهاز الشتازي يطبق طريقة التحليل على ضحاياه فهذا ما سيتناوله الجزء الثاني من هذا التقرير.

الحلقة الثانية

مخابرات ألمانيا الشرقية.. تحويل العمل “القذر” إلى علم أكاديمي

قامت بإعداد المادة: ديما مصطفى سكران
المصدر : الجزيرة مباشر