“البوتس”.. صناعة الوهم (2) الربيع العربي ومنصات الديكتاتور

الربيع العربي على المنصات الاجتماعية .. الِستار الدُخاني وأخواته

في الوقت الذي كانت فيه المنطقة العربية تشهد ربيعها، بداية عام 2011، صدر كتاب يفيغيني موريزوف “وهم الشبكة: الجانب المظلم من حرية الإنترنت”.

تحقيق/ أحمد راوي

اعتمد الكتاب الرد على المتفائلين بأن الإنترنت ستوفر ملاذاً آمنا للأفكار المُختلفة، وأن اليوتوبيا الافتراضية ستتحقق على أيدي الجيل الصاعد، الذي لم يعد أمامه سوى قطف الثمرة، وإسقاط الديكتاتوريات من عروشها.

أخذت موجةُ الربيع الأولى التفاؤلَ الافتراضي إلى أقصاه، فسُميت الثورة المصرية بثورة الـ”فيسبوك”، وصار شبابها رموزاً يُستعان بصورهم ومنشوراتهم للتدليل على قوة منصات التواصل الاجتماعي في وجه الأنظمة التي كان الهدف من الثورات الإطاحة بها. آنذاك، بدا أن منصات التواصل الاجتماعي، وأبرزها فيسبوك، هي الوجهة للثوار وحدهم، من غير أن يكون للحكومات دورٌ كبير في توجيهها. والصورة، كما رُسمت، تتلخص في شباب يجتمعون في مجموعات افتراضية، بأسماء وهمية على الأغلب، وصورٍ لمشاهير أو أماكن ترمز لخلفية صاحب الحساب الجغرافية أو الأيدلوجية، ينسقون لخطوتهم الثورية القادمة، ويحددون “ساعة صفر” لن يصل أوانها إلى الأجهزة الأمنية بسرعة، ثم يُزهر الشارعُ أهازيج وانتصارات؛ كما أن وسائل الإعلام حول العالم رأت في المشهد العربي الجديد صورة لحيوية الشباب الممسك بزمام العصر وأدواته، مقابل طبقة سياسية طاعنة في السن لم يكن من حسناتها سوى جهلها الكبير بالوافد الجديد إلى أيام الناس ولياليهم: الإنترنت. 

كتاب "وهم الشبكة: الجانب المظلم من حرية الإنترنت"

هذا الجهل، غير المُطلق بالطبع، جعلَ الحراك ينتصر في جولاتٍ عدة، والنُشطاء لا يستمرون في معتقلاتهم ردحاً طويلاً من الزمن، “فـفي بداية الربيع العربي، افتقرت الحكومات إلى النضج في التعامل مع منصات التواصل الاجتماعي وأدارتها بلا كفاءة”، كما يوضح د. كريم درويش، باحث أول في معهد قطر للحوسبة؛ وهو ما أتاح مساحة واسعة للشباب للتحرك بعيداً عن قبضة الأمن التقليدية التي كانت ترى الساحات العامة مجالاً لاستعراض القوة، وفاتها أن للواقع الراهن ساحات افتراضية توصل الناس ببعضهم أسرع من أي وقت مضى.

في الثورة السورية، التي انطلقت من درعا عام 2011، نلمس الأثر الأكبر لافتقار أجهزة الأمن للمعرفة اللازمة بالتقنية. يروي الناشط السوري ورد فراتي حكايته مع الاعتقال أيام الحراك الثوري الأولى، وعدم أهلية النظام تقنياً، قائلاً “في بدايات الثورة كان تحرك النظام على مواقع التواصل يائساً وبلا صدى يُذكر! وأقصى ما كان يستطيع النظام فعله، هو أن يعتقل أحد الناشطين ويعذبه حتى يعترف بحسابه الحركي ورقمه السري، لينفذَ منه النظام ويتتبع تواصله وصلاته بالعالم الثوري على فيسبوك. استخدمنا هذه المنصة، ودعونا من خلالها للمظاهرات، محاكاةً لما حدث في مصر. حدث ذلك في 15 فبراير/ شباط ثم 15 مارس/ آذار 2011. وبعد اعتقالي، لدوري في تنسيقية جامعة الثورة بحلب التي كنت طالباً فيها، كان السؤال من رجال أمن النظام عن فيسبوك أشبه بالسؤال عن كائن غريب!، حتى أن “خبير” النظام (مسؤول القسم التقني) فتشَّ حاسوبي الشخصي، وكان يحوي أرشيفاً ضخماً لفيديوهات الثورة على منصات التواصل، ضمن مجلد مَخفٍ بطريقة بدائية، ولم يستطع اكتشافه”. 

سُميت الثورة المصرية بثورة الـ"فيسبوك"

لم تستمر “أميّة” النظام السوري التقنيّة طويلاً، فراح بعد أشهر من اندلاع الثورة، يوظفُ شباباً لهم تماسٌ يومي ومباشر بالتقنية، ثم أنشأ جيشاً إلكترونياً مهمته إنتاج “البروباغندا” الحكومية، لتلائم منصات الجيل الثائر، وتقاوم الرسائل الاحتجاجية على النظام ورؤوسه على الأرض. خطواتٌ كهذه ليست بعيدة عما عرفه الإعلام التقليدي طويلاً؛ فليس جديداً أن تحاول الأنظمة إقناع الناس بأنها المالكة الحصرية لأي حقيقةٍ تتصل بإدارة البلاد ومواردها، والحط من شأن مناوئيها وتسفيه أي مسعىً للتغيير. حدث هذا ويحدث في أرجاء عدة من العالم العربي. الجديد إلى حدٍ ما، كما يستأنف فراتي حكايته، أن جيش النظام السوري الإلكتروني “لم يدخر جهداً في اختراق الحسابات النشطة ثورياً والتبليغ عنها، ومحاولة الإيقاع بالقائمين عليها، عبر حسابات تعج بشعارات الثورة وصور مظاهراتها، بينما أصحابها موالون للنظام، هدفهم الدخول إلى عالم المحتجين، ومعرفة أسرارهم، لتتمكن الأجهزة الأمنية من إفشال عمل التنسيقيات، واعتقال قادتها. ويمكن القول إن الحسابات النسائية كانت استثمار النظام الأبرز في الاستدراج تلك الأيام”.

فيسبوك كان مسرح المعارك الافتراضية بين الموالين للنظام وأنصار الثورة، والأكثر شعبية بين مستخدمي الإنترنت في سوريا، تُضاف إليه منصة “سكايب” التي كانت غُرف المحادثة عليها جهة يؤوي إليها الثوار للتنسيق. في تنسيقية “جامعة الثورة”، والحديث لـفراتي “كان لكل ثائر حسابان على فيسبوك: حساب أبيض لا يوجد عليه أي منشور سياسي، والآخر هو حساب الثورة – وعادة ما يتم إفشاء بيانات الحساب الأبيض أثناء تحقيق الأجهزة الأمنية معنا، فتنطلي على أجهزة النظام هذه الحيلة. أما سكايب (بيتا)، فقد طورنا أيقونته في هواتف الثوار ليصبح أيقونة لبرنامج أذكار أو قرآن، لذا حين كان يُعتقلُ أحدهم، لم يكن الأمنيون يستطيعون الوصول إلى التطبيق في جهازه لاعتقادهم أن هذه برامج (تطبيقات) عامة ولا خوف منها”.

ما لم يقله ورد فراتي، عن جديد النظام السوري آنذاك، وكتب عنه باحثون عام 2015، يشير إلى أسلوب غير معتاد في هجوم الجيش الإلكتروني السوري على المطالبين بتغيير النظام على منصات التواصل الاجتماعي، إلى حد الاستعانة بروبوتات الإنترنت (البوتس) على المنصات الافتراضية، وتحديداً تويتر، لتجيير الرأي العام لصالح أهدافه، وإظهار الثوار في رداء المُخربين. ففي بحث أعدته نورا أبو خضير وديزي وو وديفيد ماكدونالد، وقُدِّم في “مؤتمر العمل التشاركي باستخدام الكمبيوتر والحوسبة الاجتماعية” عام 2015 في مدينة فانكوفر الكندية، تبيّن أن النظام السوري استخدم روبوتات الإنترنت لاستهداف المُعارضين له، بدءاً من عام 2012. وخلال ستة أشهر من البحث (أبريل/ نيسان- ديسمبر/ كانون الأول 2012) الذي شمل أكثر من 3000 تغريدة، باللغتين العربية والإنجليزية، ظهرَ أن شبكةً من روبوتات الإنترنت تعمل على عدة محاور لترويج وجهة النظر الرسمية، وإغراق ما يعارضها على المنصات الاجتماعية. فهناك محور “الرأي” الذي تتولى شبكة الـ”بوتس” إدارته، عبر نشر المقالات التي تؤيد سياسات النظام، والقصائد “الوطنية”، و الأدعية التي تدور حول الرغبة في الخلاص من أولئك المحتجين الأشرار؛ ثم محور “الشهادات” الذي تندرج تحته تغريدات لقصص شخصية لأحد أفراد العائلة أو الأصدقاء، مع تطعيم التغريدات بمقاطع فيديو أو صور لمعارك أو جنازات. أما المحور الثالث فهو للأخبار العاجلة، وفيه تضطلع حسابات شبكة الـ”بوتس” بنشر أخبار ذات صلة بالصراع القائم، مع ترجيح كفة الرواية الرسمية الصادرة عن أجهزة إعلام النظام السوري أو أي جهةٍ موالية له. فمحورٌ رابع له عنوان “الثقافة الشعبية” ومشاهيرها، كنجوم الغناء، وكرة القدم، والتمثيل؛ وهو ما يعني توظيفاً يمكن من خلاله صرف الأنظار عن حدثٍ هام، وتركيزها على عالم المشاهير فيما يُسميه البحث “الستار الدُخاني”، الذي يُرى، على سبيل المثال، في تغطية الإعلام الرسمي الاجتماعات الرسمية بين المسؤولين السوريين، التي تخرج التصريحات إثرها مُبشرة بخلق مزيد من الوظائف التعليمية، في حين يسود الصمت المطبق حيال ضحايا البراميل المتفجرة من المدنيين.

"فيسبوك" كان مسرح المعارك الافتراضية بين الموالين للنظام وأنصار الثورة

يُذكِّر هذا الستار، أيضاً، بما قاله معارضو المرشح الرئاسي، حينها، دونالد ترمب، من أن حملته أثارت فضيحة استخدام هيلاري كلينتون بريدها الإلكتروني غير الرسمي في مراسلات رسمية، حين كانت وزيرةً للخارجية الأمريكية (2009- 2013) لكيلا تسمح بنقاش حقيقي للقضايا الأكثر أهمية داخل أمريكا وخارجها، أثناء الجولات الرئاسية للمُرشحيْن.

ترمب نفسه يحضر في الحرب السورية، ولكن هذه المرة عبر أنصاره الإلكترونيين. ففي أثناء الحديث عن تكريم “الخوذ البيضاء”، المجموعة المتطوعة المكونة من مُسعفين سوريين في المناطق المتضررة من قصف النظام، وترشيحهم لجائزة نوبل للسلام من قِبل هيئات ومنظمات دولية ومناهضين للحكومة السورية حول العالم عام 2016، برزت حسابات مؤيدة للمرشح الرئاسي ترمب، لتسخر من إعطاء الجائزة الذائعة الصيت للمجموعة المُسعفة التي تُعرف أيضاً في المناطق التي سيطر عليها الثوار بـ”الدفاع المدني”.

دراسةٌ أجرتها شركة “جمع معلومات منصات التواصل الاجتماعي” (غرافيكا)، ونُشرت عام 2019 تحت عنوان “قتْل الحقيقة”، أكدت هذا، بعد تحليل أكثر من اثني عشر مليون تغريدة على تويتر بين عامي 2016-2017. وخُلصت الدراسة إلى أن روبوتات الإنترنت، وما يُعرف بالـ”ترولز” (مديري شبكات البوتس) تشكلت في مجموعتين رئيستين، وكثفت حضورهما في الوسوم (الهاشتاجات) التي تناولت الحديث عن “الخوذ البيضاء” بالهجوم على المنظمة الإنسانية، والنظر إلى أحقيتها بجائزة نوبل للسلام بعين الشك والسخرية. هاتان المجموعتان، في الدراسة، أخذتا عنوانين اثنين: الأول لمستخدمي الدعم السوري-الروسي، ومنها ينطلق المغردون لنشر الدعاية الروسية في الحرب القائمة، والسياسة الخارجية الروسية، التي تتجاوز الملف السوري، وتهاجم بضراوة الولايات المتحدة (في عهد أوباما) وأوربا، والنظام العالمي الجديد، وبالطبع “أهمية” التدخل الروسي في شرق أوكرانيا وجزيرة القِرم.

معارضو ترمب قالوا إن حملته أثارت استخدام هيلاري كلينتون بريدها الإلكتروني غير الرسمي لكيلا تسمح بنقاش القضايا الهامة

من أساليب هذه المجموعة، الاستعانة بمغردين من كندا وبريطانيا والولايات المتحدة لإيصال الرسالة إلى أكبر جمهور ممكن في هذه الدول، وللإيهام بأن الحليف الروسي لنظام الأسد ليس هو الوحيد الذي يرى في “الخوذ البيضاء” مؤامرةً على استقرار سوريا، خاصة أن هؤلاء المغردين ينحدرون من مجتمعات حكوماتها تناصب النظام السوري العداء، ولا تُخفي دعمها المعنوي للثوار. أما العنوان الثاني فهو لمستخدمي أنصار ترمب المحافظين الذي يركزون على السياسة الأمريكية على تويتر، لكنْ حين يجيء أوان الحديث عن “الخوذ البيضاء” تراهم يعيدون تغريد ما نشرتها مجموعة الدعم الروسي-السوري، مع تغريدات إضافية تنضح نقداً وسخرية.

أصدقاء النظام السوري اليوم على تويتر، يعيدون إلى ذهن الناشط ورد فراتي بداية الحراك الفاعل في سوريا على موقع التدوين المُصغر. يقول الناشط السوري، الذي اختار مع انطلاق الثورة “ورداً” اسماً له، ومازال محبوه ينادونه به “بدأ الفعل الحقيقي في النصف الثاني من 2012، إذ أصبح تويتر منبراً للناشطين في الثورة، وراح الشباب يُنشؤون حسابات لمتابعة شخصيات سياسية ومثقفة ويستأنسون برأيها. النظام تأخر كثيراً في تويتر وحتى ردة الفعل الموالية لم تأتِ من النظام نفسه أو التيارات المحسوبة عليه داخلياً، وإنما من التيار القومي (تيار المقاومة والممانعة) الذي لم يكن شغله الشاغل سوى الهجوم على رموز الثورة السورية. وبحلول منتصف 2013، بدأنا نرى رموز النظام وإعلامييه بكثرة على تويتر.. لكن الحضور الأبرز لم يكن للسوريين المؤيدين لنظام بشار الأسد، وإنما من الشخصيات اللبنانية المرتبطة بحزب الله أو التيار القومي؛ وهذا، كما ترى، مازال مستمراً حتى اليوم”.

عقب انتصار الثورة المصرية التي أطاحت بمبارك عام 2011، قال الناشط المصري وائل غنيم “إذا أردت أن تُحرر مجتمعاً، كل ما تحتاجه هو الإنترنت”؛ ثم قال، بعدها بأربع سنوات، في محاضرة له على خشبة مسرح “تيد” بمدينة جنيف السويسرية:” إذا أردنا حقاً أن نحرر المجتمع، علينا، أولاً، أن نحرر الإنترنت”.

المصدر : الجزيرة