سارة أم ميّ زيادة: العقاد في ميزان كائن لا تحتمل خفته

عباس محمود العقاد

 

عند قراءة “كائن لا تحتمل خفته” للمُبدع “ميلان كونديرا” ستجده قد أقام ميزانًا لتحديد الخفة والثقل ثم جاء بالمشاعر الإنسانية ووضعها في ميزانه وبدأ تساؤلاته (الحب أم الشهوة) (التخلي أم التمسك) أيهما قد يكون الخفة وأيهما قد يكون الثقل؟ ثم ما هو الإيجابي وما هو السلبي في الخفة والثقل؟

ولكي يجيب عن تساؤلاته أدرج في عالم روايته أربع شخصيات روائية استخدمها بعبقرية للتعبير عن مُعضلة المشاعر تلك وهي: (توماس – تيريزا – سابينا – فرانز).

* توماس: تعلم من خبراته الحياتية تفضيل الخفة، ورآها تتمثل في “الشهوة”، وعاشها مع سابينا تاركًا لها مساحتها راغبًا في مثلها دون أن يتشبث بها تشبُّث المُحِبّ وهو ما بدا لها ضربًا مِن “التخلي” أحبته.

* تيريزا: كانت مثالًا للثِّقل رغم براءتها فأحبت “توماس”، ولم تتقبل خفته فأرادت تغييره، لكنه عانَى فقررت الابتعاد، فشعر بالخفة لكونها هي التي اتخذت هذا القرار لكنها بذلك أثقلته بثِقل الشفقة المُتّسِم بالحُبّ.

* سابينا: خبراتها الحياتية جعلت منها أكبر مثال للكائن الذي لا تحتمل خفته؛ فعلاقتها بتوماس مبنية على الخفة وتخلو من أي ثقل؛ فقد كانت تشعر بالثقل تحت أي التزام أو تشبُّث حتى وإن كان التزام الحُبّ.

* فرانز: كان مثالًا  للثِّقل فحاول جعل “سابينا” محور حياته وتشبَّث بها حُبًّا بشكل أثقلها، فرحلت وهي تتوق إلى خِفّة “توماس” الذي كان يترك لها مساحة فودّت لو أنه أمرها بالبقاء معه فبقيت!

فالنتيجة أن توماس رغم سعيه لشعور الخفة فإنه اختار الثقل شَفقة وحُبًّا في تيريزا، أما تيريزا فلم تتحمل خفة توماس وفضلت أن تُثقِله وتفوز بوجوده، وأما فرانز فقضى عليه ثقله وخسِر كل شيء، وأما سابينا فظلت وفية لخِفتها التي لم تكن على استعداد للتخلي عنها إلا مع توماس ليقينها أنه لن يُثقِلهَا.

 

كَفَّتَا المِيزانِ ورُمَّانتُه

 

في حياة صاحب العبقريات “عباس العقاد” حُبّان تملكا وجدانَه بشدة إلا أنه لم يُسْهِب في الحديث عنهما وإن كان قد أسْهب في الحديث إليهما وهما الفنانة مديحة يسري والأديبة ميّ زيادة التي كانت محل إعجاب وتقدير الكثير من أدباء عصرها.. لكن الحُب الخفي في حياة “العقاد” هو الذي جعله رغم عدم اقتناعه بفن الرواية يُقرر كتابة رواية “سارة” التي هاجمه البعض بسببها واعتبروا أنه ناقض نفسه وهم لا يفهمون أنه كتبها تأريخًا وليس حكيًا! فهي تجسد شخصية أحبها كثيرًا. ولكن من هي “سارة”؟ هل هي إحدى الحُبّين وقد حاول كتابة قصتها دون الإفصاح عنها أم أنها أنثى غيرهما؟

تعددت الآراء كثيرًا في استقصاء حقيقة “سارة” حتى ظن البعض أنها الفنانة مديحه يسري وهم مخطئون في ذلك تمامًا لأن العقاد التقى مديحه يسري عام 1939م في حين أن روايته “سارة” نشرت قبل ذلك بعام كامل بدار المعارف 1938م. وهُنَا تبقى “مي زيادة” فهل هي “سارة”؟

خلال أحداث الرواية يخبرنا العقاد بأنه حين التقى سارة أول مرة كان عاشقًا لامرأة أخرى.. العشق الذي يجعله ينتظر رسالة أو مكالمة هاتفية وعلاقته بها كانت قائمة على رسائل يصارحها فيها بعبارات الشوق والوجد بينما كانت متحفظة تجاهه ولا تصرح بأي شيء ولكنها عندما علمت بوجود “سارة” في حياة العقاد جاءت إلى مكتبه في زيارة لم تتكلم فيها بمقدار ما ذرفت الدموع وهي تطيل النظر في وجهه وقد تم ذكر تلك المعلومة بوجود حبّين في وقت واحد ربما لأن العقاد أراد تأكيد أن “سارة” ليست هي “مي زيادة” كما سيتوقع أغلب مُعاصِريه ثم استفاض في إبراز اختلاف المرأتين اللَّتين ستشكلان كفتَي الميزان في حياة صاحب العبقريات، فقد كانتا مثالين متناقضين من الأنوثة.

   الكفة الأولى (الثِّقل)

كانت “مي زيادة” كأنها خُلِقت راهبة في دير وكانت مثقفة ذات طموح تبدو دومًا كأنها مشغولة بأن تصوغ حولها كل ما تستطيع من قيود ثم تطليها ذهبًا وترصِّعها بالجواهر، فجمالها كان مهيبا كالحصن الذي يحيط به الخندق فهو عظيم ويصعب الوصول إليه.. ولذلك لم تمنح “العقاد” سوى جمال التلميحات ولم ينعم منها بسوى الرسائل وبعض اللقاءات المنفردة بعيدًا عن صالونها، وفي الوقت الذي أراد منها تصريحًا بالحُب وقُربًا تمنعت هي وصارت تقترب تارة وتبتعد تارة فلم يتحمل ثِقل مسحتها الرهبانية ونزعتها الأخلاقية الشرقية فقد كان طامعًا في أن تستثنيه وتتخفف من ثقلها لأجله لذلك تباعدا وإن كان قد ظل يحبها ورثاها بقصيدة مؤثرة عند وفاتها.

 الكفة الثانية (الخِفّة)

أما “سارة” واسمها الحقيقي “أليس داغر” فقد كانت تبدو كأنها امرأة وثنية نشأت قبل أن يظهر الأنبياء فقد تعلمت وهامت بأوربا فصارت أوربا لها كنبي معصوم تستلهم منه كل شيء.. الأزياء والأفكار والطِّباع؛ فصارت متحررة ومشغولة بتحطيم كل القيود وكان جمالها كالبستان لا حاجز يمنعك من الوصول إليه فهو سهل وناعم وكانت غواية الجسد عندها كرعدة الحُمّى فكانت امرأة جامحة متفلسِفة ومُثقفة أذاقت العقاد فلسفة العقل ومتعة الحوار وليونة الجسد الأنثوي؛ فاحتلت روحه حتى صار يرغب في تملكها لكنه لم يفهم طبيعتها وخِفتها فقد كان عالمها هو عالم الحُبّ والمحبين ففارقها لعدم قدرته على تحمل ذلك الثِقَل ثم عاد وخاطب نفسه قائلا: “قدِّر أنها تخونك وأنك تلهو بها في ساعات فراغك ولا يعنيك من شأنها بعد ذلك إخلاص ولا خداع، إذًا انتظرها والْهُ بها ولا تدعها لغيرك ينال منها ما لا تنال”.

لكنه لم يقدر على تحمُّل ذلك خاصة أنها كانت تصارحُه أحيانًا ببعض مغامراتها العاطفية! فكانت له كـ”سابينا” بكل خفتها كما صورها “كونديرا”، ولكنه لم يكن “توماس” فمثلت له خفتها كل الثِّقَل.

رُمانة المِيزان

في الواقع لقد حظي “العقاد” بالشيء ونقيضه لكن مأساته كانت تكمُن في “الثِّقل” فمع أنثاه الأولى “مي زيادة” كان سيحظى بما يعرُف بالحُبّ العذري لكنه أدرك عدم كفاية ذلك له ورأى في شرقيتها ونظرتها إلى الحُبّ ثقلاً يمنعُه من المتعة التي كان يسعى لها؛ ومع أنثاه الثانية “سارة” تذوق كل ما يريدُه مع أنثى أعطته كل ما يشتهيه لكنه لم يتحمل خفتها واعترافاتها بعلاقاتها أحيانًا؛ مما دفعه إلى الشك الدائم فكان تحررها ثقلًا لم يتحمله.. لذا صار العقاد ضحية الثِّقل مرتين، فلا هو تحمل الحب العذري ولا هو تحمل تحرر العلاقات الجسدية؛ ليتضح أن ما كان يريده هو مزيج من تحرر سارة ووفاء وإخلاص مي زيادة؛ وهو ما دفعه إلى البحث في المرة الثالثة عن فتاة صغيرة ظن أنه سيصنع منها أنثاه ذات المزيج الذي يسعى إليه وهي “مديحة يسري” ولكن نتيجة لتجاربه السابقة فقد أحاطها برقابة دائمة أثقلتها فتمردت وتركته.

في النهاية كانت “مي زيادة” للعقاد أشبه بتيريزا تود أن يبقى حتى وإن أثقلته، وكانت “سارة” للعقاد “سابينا” لكنه لم يستطع أن يكون “توماس” لأي منهما.. لم يتميز العقاد بخفة الكائن كـ”توماس” وبالتالي لم يتقبل “سارة” ولم يصارع من أجل “مي” لكنه كان مثل “فرانز” فقضى عليه ثِقلَه.