مرحلة جديدة بإعلان وقف مسار أستانا

اجتماع أستانا

 

عندما يُذكر الوضع السوري والمسارات السياسية المستقبلية لدول النزاع والحروب، يتبادر إلى الذهن شكل التفاوض الهش الذي لم يُبنَ على أرض صلبة تفرض شروطها دون إذعان، وحالة الغوغاء التي تعم غالبية ممثلي المعارضة، لا سيما المعارضة التي انضوت تحت حليف العدو نفسه، فصديق عدوي هو عدوي كذلك، هي روسيا التي استقطبت شخصيات عسكرية وسياسية سورية لتعمل لصالحها، لكن عندما تماهت مع القيادة الروسية في مسار أستانا، ذهبت مع الريح ولم تكسب إلا الوجه الأسود.

في الفترة الأخيرة ما بين الجولة التاسعة عشرة والعشرين من اجتماعات أستانا، شهد الملف السوري تطورات عدّة متلاحقة بخصوص العلاقات مع نظام الأسد وعودته إلى المحيط العربي، وهذا من شأنه أن يدفع الدول المشاركة في مسار التفاوض إلى الأخذ بعين الاعتبار الانفتاح العربي الحاصل الذي بدوره سيقدّم حلوله ومبادراته على مستوى وزراء الخارجية والدفاع، من أجل قضايا الأمن ومكافحة المخدرات والتنظيمات غير الرسمية، بما فيها مسألة إعادة إعمار سوريا، وهذا ما سيتم الاتفاق عليه في اجتماع الدول ضمن بلد عربي يُحدَّد لاحقًا، لكن ليس بعد انتهاء مسار أستانا.

مسار التفاوض

الآن وها قد وصل مسار تفاوض أستانا في نسخته العشرين إلى نهايته، الذي اتخذ من كازاخستان مقرًّا لاجتماعاته على مدى سبع سنوات مرّت، ناقش فيه ثنايا الملف السوري على أساس إيجاد صيغة توافقية بين الأطراف المشاركة فيه (روسيا وإيران وتركيا ونظام الأسد) لكن الجلسة الختامية التي عُقدت يوم الأربعاء 21 يونيو/حزيران 2023 لفتت الأنظار وأثارت العديد من التساؤلات لكونها مختلفة عن سابقاتها، فلِمَ توقف مسار التفاوض في هذا الوقت بالتحديد؟ وعلى ماذا توافقت الأطراف المجتمعة؟

في واقع الحال لا يمكن فصل الأحداث التي تتزامن مع بعضها البعض، فتركيا بعدما نجحت في انتخاباتها التاريخية، ذهبت باتجاه إغلاق جميع الملفات السياسية العالقة وأولها الملف السوري المعقد، مع أن مسار أستانا أنجز مهامه بنسبة 80% من حيث ترسيم حدود مناطق خفض التصعيد وإجراء التسويات والمصالحات برعاية روسية، التي تُوّجت بتسليم معظم الأجزاء المحررة من قِبل قوى وفصائل الثورة إلى سلطة نظام الأسد و”قوات سوريا الديمقراطية” (مليشيا قسد الكردية).

دواعي توقف مسار أستانا

فيما مضى طرح الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب (حكم من 2017 إلى 2021) فكرة إقامة مناطق آمنة في سوريا لحل قضية اللاجئين، التي رفضتها باستمرار إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما خشية جر الولايات المتحدة إلى التدخل العسكري ضد نظام الأسد.

في وقتها طلب ترمب من وزارتي الدفاع والخارجية وضع خطة لإنشاء مناطق آمنة داخل سوريا خلال مدة أقصاها 90 يومًا، لكن هذا الأمر لم ترض عنه روسيا، لأنه جاء ردًّا على سياستها وبمثابة تخريب لمخططاتها على الأراضي السورية، فما كان منها إلا أن قطعت الطريق على المخطط الأمريكي عبر خلق مسار “تفاوضي” لتستفرد بالحل السوري على طريقتها، الذي طرح مبادرة مناطق خفض التصعيد بديلًا لإنشاء مناطق آمنة للاجئين، فكان مسار “أستانا” عاصمة كازاخستان التي استضافت الاجتماعات السابقة بجولاتها الـ19 عن الأطراف المعنية بتسوية الوضع: حلفاء النظام (روسيا وإيران) وتركيا المستضيفة لقوى الثورة والمعارضة.

المهم وبطبيعة الحال أن مخرجات الجلسة الأخيرة لمسار أستانا (آلية التطبيق وماهيته) لم تكن واضحة لوسائل الإعلام والصحف الرسمية، مثل: مسألة الأمن القومي التركي، وعودة العلاقات أو شكل التقارب بين أنقرة ودمشق، لكن ما يمكن الحديث عنه بصورة عامة هو دواعي توقّف مسار أستانا، ومن أبرزها:

فك عزلة نظام الأسد وعودة سوريا إلى الجامعة العربية. انتهاء الانتخابات التركية وفوز الحزب الحاكم بالرئاسة وتشكيل حكومة جديدة. البدء بأعمال اللجنة الدستورية (السورية) المخرجة عن اتفاق أستانا. ضغط أمريكي غير مباشر لدعم مسار التطبيع العربي مع النظام. إطلاق مبادرة عربية لاحتواء الوضع السوري. الإجماع على تفكيك ومحاربة كل من حمل السلاح بحسب التصنيفات. إعداد خرائط سياسية وعسكرية بشأن الحدود مع سوريا.

نقطة ومن أول السطر، فبعد ذكر أبرز ما تم الاتفاق عليه ودواعي انتهاء مسار أستانا، لا بد من القول إن خارطة الطريق بدت أكثر وضوحًا بالنسبة لتركيا، وإن علاقاتها مع دمشق ستكون بناءً على معطيات ومخرجات البيان الختامي لاتفاق أستانا، الذي بدوره شرعنَ لعمليات التسوية السياسية مع نظام الأسد، لكن الجدير بالذكر أن قرار وقف مسار أستانا الذي فرضته روسيا منذ البداية بصورة عسكرية قبل أن يتحول إلى المسار السياسي ما هو إلا قرار دولي يذعن لمرحلة جديدة مليئة بتحولات جذرية في ملفات المنطقة العربية، أمّا المعارضة السورية فشأنها شأن الأوراق الدولية التي يتم الضغط عليها من خلال صلاحيات اللجنة الدستورية.