كلمات حول مسلسل الإمام الشافعي

 

أولا: إن تقديم أي عمل تاريخي باللهجة العامية الدارجة المصرية أو باللهجات المحلية لأي بلد هو عمل جائز ويُحترم إذا روعيت فيه الجوانب الفنية وبما لا يؤثر علي جودة العمل أو يعطي صورة سلبية للشخصيات أو مغايرة للوقائع التاريخية، بل قد يكون استخدام العامية أو اللغة البسيطة ممدوحا إذا قُصد منه تقريب الأحداث والحوار لفهم الرجل البسيط، وذلك مثله مثل تقديم الحقبة التاريخية نفسها بأي لغة أخري كالإنجليزية أو الألمانية أو الفرنسية.

ولكن في حالتنا هذه كان الأولى أن تكون لغة العمل هي اللغة العربية البسيطة، وهي لغة قادرة أن توسع قاعدة المشاهدين متخطية اللغات واللهجات المحلية، وقد أثبتت نجاحا مبهرا في كل الأعمال التي قُدمت بها.

خاصة أننا في حالة الكلام عن الإمام الشافعي -رضي الله عنه- فنحن نتكلم عن إمام فقيه شاعر ويصنَّف (بلغتنا الحالية) في أعلي طبقة من طبقات المثقفين، وديوانه وشعره الفصيح بين أيدينا.

وهنا كان يلزم على من يتصدى لتقديم هذا الإمام أن يرتقي هو إلى لغة الإمام وأسلوبه لا أن ينزل بالإمام وأصحابه ويحبسهم في تصوراته ولغته الضحلة الركيكة.

ثانيا: إذا كان من حق المؤلف والمخرج تقديم العمل حسب رؤيتهما الفنية فمن حق الناس قبول هذه الرؤية أو رفضها، أو يكون ردهم عفويا مليئا بالسخرية من العمل والقائمين عليه، بل وحتى إذا ذهب البعض إلى أبعد من ذلك باعتبار العمل مؤامرة علي الإمام والأمة وتراثها.

ثالثا: الذي أزعج المشاهد وأثار استهجان رواد مواقع التواصل الاجتماعي ليست اللغة العامية بحد ذاتها، ولكن استخدام لغة دارجة غير مناسبة، وتعبيرات لا تليق وفي غير موضعها ونحن نتحدث عن شخصيات مرموقة ونخبة ذات طراز فريد في اللغة والأدب.

ولو امتلك المؤلف أو كاتب الحوار الحد الأدنى من الحرفية أو الموهبة لعلم أنه حتى في اللهجات العامية واللغات الدارجة عاميات ولغات مختلفة تُستخدم حسب السياق أو المجتمع الذي تعبّر عنه، بل إن البسطاء ومحدودي التعليم يعلمون أن لغة الشارع ولغة أهل الحرف والصنائع تختلف عن لغة المتعلمين والمثقفين، وما يصح أن يقال أو يُستخدم مثلا خارج الجامعة أو المساجد أو في المؤسسات لا يصح استخدامه داخلها، وأن قاموس أهل الصنائع والحرفيين يختلف عن قاموس العلماء والشعراء والمثقفين، وأن أبسط أصحاب المهن أو أهل الريف والحواري، يعرف الشخص نفسه ويفرّق بين اللغة والكلمات والجمل التي يستخدمها مع أقرانه وما يجب أن يخاطب به الشيخ والعالم والطبيب.

رابعا: ليس في الأمر تآمر متعمد، فالقوم أقل وأضحل من ذلك، ولكنها قلة الحيلة والاستسهال وشدة الضعف والركاكة. إن إنتاج مسلسل بلغة عربية فصيحة سليمة وبسيطة غير متكلفة هي عملية غاية في الصعوبة وترقى إلى المستحيلات مع أنصاف المثقفين، وتحتاج إلى وقت وتصحيح طويل وكوادر وطواقم من الممثلين يستطيعون النطق بفصاحة وسهولة، وكل ذلك يتعارض مع رغبة القائمين على الحالة الفنية في مصر في الإنتاج المتعجل والإنجازات الكبرى والسريعة، وهذه حالة عامة تنسحب على كل شيء في مصر من الجسور والطرق إلى أن تصل إلى الفن والشعر، ولم يسلم منها لا طب ولا اقتصاد ولا أي شيء.

خامسا: دفاع القائمين عن العمل لا يدل إلا على العجز وقلة الحيلة، سبقهم إلى ذلك من عجزوا عن صياغة الشعر العربي الموزون الذين كتبوا رجيعا وكلمات منثورة ركيكة، وبدلا من الخجل خرجوا علينا بصيحات الحداثة والتحديث.

سادسا: كنت أتعجب دائما وأقف مبهورا أمام براعة وموهبة الكتّاب والشعراء الذين كتبوا لنا مسرحيات شعرية كاملة، أي وحي أو أي شيطان شعر هذا الذي أعطاهم القدرة على صياغة مسرحيات كاملة وحوار ومواقف في صورة شعرية جميلة.

ولا نتكلم هنا عن تراث بعيد أو قرون خلت، بل نتكلم عن أدباء رأيناهم وعشنا معهم ملؤوا العالم إبداعا وسحرا، لكنها سنوات بسيطة معدودة أوصلتنا إلى هذا الحضيض والمستنقع الركيك.

عمل ركيك

باختصار، نحن أمام عمل فقير ركيك، ركاكة عصره ومنتجه والعاملين فيه، وهذا أمر غير مستغرب، و”إن خرج العيب من أهل العيب ما يبقاش عيب”.

نقطة أخرى، فإنه أصبح من المؤكد واليقين التراجع الشديد والانحدار والتردي الذي تشهده حالة الفن والثقافة في مصر وعلى جميع الوسائط، وأصبحت قدراتنا لا تتجاوز في الأغلب مقاطع يوتيوب من عينة (أحمد وزينب) وإلى ذلك من الخراء والفساد على شاشاتنا الصغيرة والكبيرة وشاشات هواتفنا.

في الوقت ذاته الذي تشهد فيه مناطقنا العربية ريادات جديدة في كل يوم، فبعد الدراما السورية والإنتاج التاريخي الرائع والمذهل، وبعد التجربة القطرية الرائدة في الأخبار والإعلام الرياضي، نخسر الآن ساحة منصات التواصل الاجتماعي أمام مخرجات وإنتاجات خليجية رزينة ومحترمة وتحقق جماهيرية عالية، فـ”بودكاست” أصبح الآن سعوديا بامتياز.

بل وحتى مقارنة بسيطة بين إعلام وبرامج ريادة الأعمال في مصر والسعودية، تخسر فيها الركاكة وشدة الضعف أمام إنتاج راقٍ ومتميز.

أخيرا، عزيزي القارئ، إن كنت قد استطعت أن تقرأ وتعي كل ما سبق، وهي كلمات بسيطة من شخص ليست صناعته الكلمات، فذلك دليل على بساطة لغتنا العربية وجمالها وقدرتها على التعبير.

وكل الذي نطلبه ممن تصدى لكتابة عمل تاريخي لشخصية في حجم الإمام الشافعي هو بعض الإتقان، وأقل القليل من بذل الجهد، وقراءة بعض من إنتاج الشافعي إن لم يكن أغلبه. ومن وجهة نظر إعلامية بحتة، فإن مشكلتنا في الإنتاج الفني ومنذ زمن هي الورق، فالكتابة وصناعة المحتوى والأفكار قبل الصورة والإبهار.

 

محمد نور

إعلامي ومنتج فني