“همهمات هاو”!

رغم الضجيج الذي يعتمل داخل جدران عقلي، فهناك شيء ما يمنعني من الكتابة، يحول بيني وبين تصفيف الكلمات وكأنه حاجز من الحديد الصدئ يكبل أفكاري ويقصيني عن عالم الأدب والكتابة. وكأنني لست جديرة بالاهتمام، ضئيلة أمام الأبجدية، هاوية تقلب الأحرف، وصغيرة أمام حلم كبير بكتابة تخلب الألباب.

ربما هو ذلك البياض الذي يقلق بصيرتي، يجعلني أرى قطع الأبجديات قطعًا متناثرة تتقافز في رأسي، تختفي وتظهر بحركات “أكروباتية” كلما حككت رأس القلم على الورقة، ولكنها رغم ذلك تأبى أن تنزف، وتأبى أن تكتمل في ذهني. تراودني فكرة انعدام الرغبة، الحالة التي تجعلني بعيدة عن كل شيء، بعيدة حد الانزواء على نفسي، مكونة عالمًا لا يخص أحدًا غيري، هو أنا وأنا هو.

كلمات عشوائية

ولعلاج معضلتي الكتابية، قررت أخيرًا ما يلي: سأكتب كلمات عشوائية بسيطة أو منمقة، لعلّي أحرك مياه خيالي الراكد، وأخرج بمنتج أدبي لائق بقراءاتي التي اقتنص الوقت لأرحل من خلالها عبر مدن وأزمان، لأعبّئ مخزون الكلمات منها أو لعلّي بها أتحرر!

ولكن لا شيء بالنهاية يُكتب، كأن لا شيء أصبح يثير اهتمامي، انعدمت حالة الرغبة لديّ وأصبحتُ بشكل ما متيقنة أنه لم يعد هناك ما يُكتب، كأن جميع الموضوعات قد كُتب عنها، قد تمت مناقشتها وتحليلها ودراستها، ولم يتبق لي غير فتات لست بها مهتمة، كأنه حاجز يصدني ويحول بيني وبين الكلمات.

أو ليس هذا ما يسمى صمت الكاتب؟ الصمت أو العجز الذي يقذف بالكاتب في غياهب اليأس والخوف من فقدان الموهبة أو فقدان الصوت الذي تنطق به الكلمات، الخوف من تلاشي الشغف والآمال، الخوف الذي يعتريني كلما تقدمت في العمر، وأصبحت أرى أن الأحلام لا تتحول كلها إلى حقيقة، وأن الكتابة لن تنقذني دائمًا رغم أنها اليد الوحيدة التي تمسح على قلبي كلما شعرت بالعجز والضعف.

ضجيج صمت رهيب ومفزع ينتابني كوخز الضمير بسبب التأتأة التي تعتريني في الكتابة، لا أتأتئ بالحقيقة ولكنها موجودة بعقلي تعبث بي وتعري هشاشة لغتي ونضوب كلماتي، وكأن كل كلمة سأطلقها ما هي إلا “همهمات هاو”، أو طفل تعلّم أصوات الأبجدية حديثًا ولم يتقن إلا أنصافها. أعلم أن الكتابة لغز، وأن طريقها طويل جدًّا، كالبحث عن كنز ضائع وسط صحراء قاحلة، ولكنها في النهاية الضوء الوحيد المنبعث من نهاية النفق.