السويد وفنلندا.. جدلية الحياد والتحالف

في مقر الناتو

 

يُعد “توازن القوى” من أكثر المفاهيم المثيرة للجدل، لكثرة معانيه وغموضه أحيانا، وكثرة الانتقادات الموجهة إليه، والآراء المؤيدة له، وهناك من لا يعتبر الغموض المصاحب لتوازن القوى أمرا سلبيا، لأن النظام الدولي غامض بطبيعته، والحروب المدمرة فيه تندلع لأسباب غامضة.

يعتقد “كينيث والتز” وهو من أشد المؤيدين لفكرة توازن القوى، أنه إذا كان هناك نظرية متميزة بشأن السياسة الدولية فإنها -دون ريب- توازن القوى، إضافة لذلك فإنها تُعد مرشدا ومرجعا لفهم الأنماط المتكررة لسلوك الدول وتصرفاتها في الأوضاع التي تتسم بالفوضى الدولية.

في هذا السياق، فإن قيام التحالفات بين الدول يُعد من أفضل الطرق لتعزيز توازن القوى، وكلما زادت عدوانية الدول وأظهرت نيات توسعية، كان الاحتمال كبيرا أن تتسبب في تكوين تحالف مناهض لها، ويمكن بصورة عامة في تكوين التحالفات، اعتبار جميع الدول حلفاء، وربما أعداء محتملين، ويُعد هذا السلوك مقبولا وفاشيا في توازن القوى، غير أن الدول ينبغي لها أن تسعى إلى التحالف مع حلفاء لهم القدرة على معادلة قوة الخصوم، أو موازنة القوة بالقوة.

التحالفات الدولية في حقيقتها هي علاقات تعاقدية تقوم بين دولتين أو أكثر، بموجب اتفاقية تحدد واجبات وحقوق الطرفين (أو الأطراف) المتعاقدين إزاء بعضهما في ما يتعلق بالأمن القومي للأطراف المتعاقدة، وبموجبها تتعهد تلك الأطراف بمساعدة بعضها، واتخاذ ما يلزم من تدابير معينة لحماية أعضائها من قوة أخرى محددة تبدو مهددة لأمن كل من هؤلاء الأعضاء في المستقبل.

والتحالف بما ينطوي عليه من معاني التفاهم، والعمل المكمل والمشترك في كل المجالات الدفاعية والعسكرية والسياسية والاقتصادية، يكون مؤقتا وينشأ دائما في أوقات الحروب، حيث تتولد مصلحة مشتركة بين دولتين أو مجموعة من الدول تدفعها إلى التحالف، تحديدا في حالة حدوث تغيير مفاجئ في الوضع العسكري، وهذا بالفعل ما حدث عندما فارقت كل من السويد وفنلندا حالة الحياد التي التزمتها كل منهما، والتي امتدت إلى ما يقارب السبعين عاما في الحالة الفنلندية وأكثر من ذلك بكثير في الحالة السويدية.

ومن الواضح تماما أن انضمام الدولة إلى الحلف يعني خدمة مصالحها وأهدافها أولا، بما يحققه التحالف من معاني الاستقرار المادي والمعنوي لكل المتحالفين أو المتحدين بأنصبة متساوية وعادلة (بعض التحالفات يكون الاستقرار المادي والمعنوي للطرف الأقوى والفاعل فيها أكبر بكثير من الطرف أو الأطراف الأخرى من داخل التحالف، بل إن الطرف الأقوى والفاعل قد يكون تحقيق الأهداف والمصالح ليس هو فقط المحصلة الوحيدة التي يسعى إليها ولكنه يصل إلى مراحل أكبر وأخطر من ذلك، مثل إملاء الشروط والفروض التي تتوافق مع استراتيجيته الخاصة، أو حسب ما تقتضيه الظروف التي تملي عليه تغيير مواقفه ومبادئه بالكامل، وأن يتبع ذلك تهديدات بالانسحاب من التحالف، أو تهديدات بالغزو والاجتياح).

في مرمى النيران

ربما يزيد انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو (باعتباره منظمة دفاعية) من قوة وصلابة الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة، في مواجهة الآلة العسكرية الروسية التي سيطرت على أجزاء كبيرة من أوكرانيا، وتعتبر الولايات المتحدة أن هذا التصرف من الدولتين هو مما يخدم توجهها في ردع الدب الروسي، ووسيلة ضغط جديدة في تطويقه واحتوائه، کما أن التصرف ذاته يُعد مقويا جديدا لركائز الناتو، وزيادة لقدراته الدفاعية والهجومية لصد أي اعتداءات روسية جديدة محتملة.

روسيا -من جانبها- تعتبر طلب انضمام الدولتين إلى الناتو شرا مستطيرا، ومهددا لأمنها القومي، وأن هذا التصرف قد يجعلهما في مرمى النيران الروسية.

مع هذا، وبعد كل هذا، فإن في فوضى السياسة الدولية والمشهد الراهن يمكن أن نتصور عدة كواليس ودوافع جرت كما يأتي:

1- هناك شواهد حقيقية على نية روسيا في التمدد والتوسع في القارة العجوز بعد أن دخلت الحرب الأوكرانية شهرها الرابع. قالت رئيسة الوزراء السويدية ماغدالينا أندرسون “قررت السويد التقدم بطلب للانضمام إلى الناتو، لأنها غيرت وجهات نظرها بشأن استعداد روسيا لاستخدام العنف وتحمّل مخاطر هائلة، فالأسباب الروسية لغزو أوكرانيا جميعها لا تهم، لكن الوسيلة التي اختارها بوتين لحسم الخلافات هي خوض الحرب، مما ينذر بمزيد من التهديدات”.

2- قياس القوة السويدية أو القوة الفنلندية مقارنة بقوة الدب الروسي، هي نسبة راجحة لروسيا، وإن الحكمة تقتضي التحول من الحياد إلى الانضمام للناتو في هذا الظرف تحديدا، وإن الانضمام للناتو سيحقق منظومة دفاعية أكبر عن كلتا الدولتين، بكافة الوسائل السياسية والعسكرية ضد أي تهديد أو عدوان روسي محتمل.

3- قد يكون الدافع إلى ذلك (أي تقدم الدولتين بطلب الانضمام للناتو) هو دافع خارجي من الولايات المتحدة ذاتها، خاصة أنها عززت وجودها العسكري في أوربا الشهور الماضية، ونشرت قوات في أوربا بعد دخول روسيا إلى أوكرانيا، وإذا صح هذا التصور، فإنه يُحسب نجاحا للولايات المتحدة في استخدام القوة الناعمة وتحريك قطع الشطرنج من غير أن يبدو للعالم أنها وراء ذلك، والهدف الأساس والأول والأخير في ذلك هو تركيع روسيا.

جملة القول، وأيّا كانت الدوافع والمسببات التي جعلت الدولتين تختاران سياسة التحالف والانضمام للناتو، وأن تتخليا عن سياسة الحياد الطويلة التي كان من نتائجها اكتسابهما الهدوء والاستقرار السياسي، ونتائج جيدة في المجالات الاقتصادية والعسكرية والعلمية، فإن فرضية الرد الروسي القاسي والمفاجئ لدول الاتحاد الأوربي وأعضاء الناتو والولايات المتحدة وربما للمجتمع الدولي برمته، تظل في كل الحالات فرضية محتملة وواردة ومتوقعة.