القوة الإلهية.. مدد السماء

بداية القول أود أن أشير إلى أن هذا العنوان لم أضعه لحظة كتابة هذا المقال، بل كان مكتوبا عندي بالفعل منذ ما يقارب ثلاث سنوات، تحديدا أواخر 2019، عندما كتبت آنذاك دراسة بحثية بعنوان (مفهوم القوة والقوة الإلهية) ونشرت في ذلك الوقت، غير أني وقفت عليها مرة أخرى ونقحت أخطاءها وأضفت ونقصت فيها بما يكون نقصانه أفضل وأجدى، وزدت فيها بما تكون زيادته أنفع وأقيم، وضمنتها في كتاب ومعها مقالات كنت كتبتها في أوقات متفرقة، جاءت مناسبة ومتسقة مع المضمون فسرتني لما وجدتها، وضممتها إليه وآلفت بينها وبينه وجمعت ذلك في سفر أنيق يبلغ 500 صفحة، أسأل الله أن يقيض ويسخر لي من ينشره ويترجمه.

ولئن كان ذلك العنوان والمضمون موجود في خزانتي فإن العجب هو أن تتحقق بعض معاني الكتاب على الواقع، وأقصد بذلك أن تصبح أفغانستان مقبرة لأكبر إمبراطوريتين وقوى عظمى في الوقت الراهن.

في كتابه (رقعة الشطرنج الكبرى) يقول زبغنيو بريجنسكي “إن الولايات المتحدة الأمريكية تحتل مرتبة عليا في المجالات الحاسمة الأربعة للقوة العالمية، وهي المجال العسكري الذي تملك فيه قدرة وصول عالمية لا مثيل لها، والمجال الاقتصادي الذي تبقي فيه ذات قدرة تحرك رئيسية في النمو العالمي، حتى ولو واجهت تحديات في بعض المظاهر من قبل ألمانيا واليابان”، ويوضح أن أي منهما (أي ألمانيا واليابان) لا تملك المزايا الأخرى للقوة العالمية، والمجال الثالث وهو المجال التكنولوجي حيث تحافظ فيه علي المجالات الحادة والحساسة في الابتكار، والمجال الرابع وهو المجال الثقافي الذي تتمتع فيه بالرغم من بعض السلبيات بإغراء لا يمكن منافسته، وخاصة بين شبان العالم الذين يرون في الولايات المتحدة دولة تملك نفوذا سياسيا، لا تقترب أي دولة أخرى من مجال القدرة علي منافسته، وهكذا فإن الجمع بين هذه المجالات الأربعة هو الذي يجعل من الولايات المتحدة تلك القوة العظمي العالمية الوحيدة حصرا.

 إن مضمون القوة الإسلامية ليس في حجم العتاد العسكري والآليات

الحقيقة أنه لا المجال العسكري الذي تزعمت الولايات المتحدة فيه العالم، وبلغت فيه مكانا متميزا لا تزاحمها فيه دولة، ولا أن المجال الاقتصادي والتكنولوجي والثقافي الذين لا تضاهيها أو تقربها فيهم دولة في المجتمع الدولي، كافية لجعلها القوة العظمي في العالم، لأنها ببساطة تفتقد المجال الخامس الذي أغفله (بريجنسكي)، وهو القوة الإلهية ومعرفة الدولة ربها والتوكل عليه!

فالمجال العسكري للولايات المتحدة، وإن كانت التقنية العسكرية والعدة والسلاح والآليات متوفرة ومتقدمة على غيرها من الدول، إلا أن قوة الضرب والدحر والرمي، أشد وأنجع عند الدولة التي لا تملك ما تملك هي، ويكفيها أن تمتلك محركا قويا، هو محرك العقيدة والإيمان.

إن مضمون القوة الإسلامية ليس في حجم العتاد العسكري والآليات، أو العدد الكبير من الجيوش، أو الموارد الاقتصادية أو النفط، صحيح أن مجموع ذلك مرغوب ومطلوب للدولة، إلا أن كفة العقيدة الإسلامية السليمة راجحة عليه، و(كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّه)، وهذا هو الأهم (بإذن الله).

القوة الإلهية هي قوة الله سبحانه وتعالى، و(القوي) من أسمائه الحسني وصفاته العليا، فهو سبحانه وتعالى متصف بصفات القوة الكاملة والمطلقة، لا تشابهها في ذلك قوة أو تماثلها، جل وعز في أسمائه وصفاته، وإثبات صفة القوة هي من ركائز التوحيد وأصول الإيمان، قال تعالي (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ ۗ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) [هود: 66]، وقال تعالي (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ۗ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الأنفال: 52 ]، وقال تعالي (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج: 40 ].

والمخلوق ضعيف متصف بصفات الضعف مهما بلغت قوته، قال تعالى (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) [الروم: 54]، ونسبة القوة إلى الله (الإلهية)، تعني قدرة الله وقوته التي ينصر بها عباده.

إن قياس قوة الدولة يعد من الصعوبة بمكان، ولا يوجد تصنيف أو تعريف ثابت لهذا المقياس، لكثرة العوامل والمتغيرات والمعايير والأفهام التي ربما تتداخل في تحديد مقياس قوة الدولة، واختلاف وتباين الرؤي التي تنظر بها كل مجموعة.

مع ذلك فإن اعتبار بعض الضوابط المنهجية مثل حدود القوة والطبيعة النسبية للقوة، واختلاف قياس قوة الدولة من وقت لآخر، يمكن أن يضيق من اتساع مفهوم مقياس القوة، وتساعد في تعريفه على نحو أقرب للدقة بالرغم من كثرة المتغيرات والمعايير.

بالرغم من أن هذه الضوابط يصح أخذها في الاعتبار لقياس قوة الدولة وتحديدها علي نحو أقرب للدقة والصواب، إلا أنه لا يمكن اعتبارها في نواحي أخرى أو قوى أخرى، فإذا كانت قوة الدولة تتكون من مواردها البشرية والعسكرية والسياسية والاقتصادية والعقائدية، فإن القوة العقائدية والتي هي أهم مكون للقوة في الدولة المسلمة، والمحرك الأول للقوي الاقتصادية والعسكرية وغيرها، لا ينطبق عليها أو يتوافق معها القول بنسبية القوة إزاء الهدف، فقوة الهدف أو قوة الخصم ربما تتناسب بنسب غير متساوية وفقا لمعطيات ومخرجات القوة في كل، غير أن المعادلة تكون صفرية إذا ما تناسبت تلك القوى مع القوة العقائدية أو القوة الإلهية.