“النّسْويّة الإسلاميّة” في الميزان

تمثال ماري ولستونكرافت "أم النسوية" للفنانة ماجي هامبلينج في نيوينجتون جرين ، لندن

يجدُ المُتَتبّع لتاريخ النّسويّة وأسباب ظهورها ودوافع نموها وتطورها في الغرب أنّ النسويّة سواء كانت فلسفة فكريّة وتنظيريّة أو حركات تحرّر وتغيير برزت كنوعٍ من أنواع الرّفض تجاه الأفكار والممَارسَات الذكوريّة الجائرة ضدّ المرأة لحرمانها من أبسط حقوقها الإنسانية!

إذ نستطيع استقراء هذه الحقيقة الجليّة من خلال استعراض آراء وأفكار وأقوال فلاسفة العصور الوسطى في المرأة، فيقول الفيلسوف اليوناني سُقراط “إنّ وجود المرأة هو أكبر سببٍ لانحطاط البشرية”، حيث يُعتَقد أنّ المرأةَ مجرد رجل ناقص وخطأ حصل في الطبيعة ونتاج نقصٍ في الخلقة!

ويقول الفيلسوف اليوناني فيثاغورس “هناك مبدأ جيّد وهو الذي خَلَق النّظامَ والنورَ والرجل، وهناك مبدأ سيئ وهو الذي خَلق الفوضى والظلمة والمرأة”

أما المفكر والقدّيس الإيطالي توما الإكويني فرأيُه في المرأة لم يكن أفضلَ من تلك الآراء، إذ اعتقد أنّ المرأة لا ينطبق عليها الغرض الأول للطبيعة وهو طلب الكمال، بل ينطبق عليها الغرض الثاني للطبيعة وهو النّتانة والقُبح والهرم!

ولم يختلف المفكر والفيلسوف السويسري جان جاك روسّو عن أقرانه في الاتفاق مع هذا الفكر، حيث يؤكد أنّ المرأةَ موجودةٌ من أجل الرجل فقط، أي أنها خُلقت لتحظى بإعجابه وللعمل على طاعته لأنه من مقتضى الطبيعة، ورَبَط ضرورة تعليم النّساء بكمال الارتباط بالرجال لأجل نيل رضاهم ومحبتهم واحترامهم، وأنه وسيلة مقصودة لتحقيق سعادتهم!

البعض الآخر كان منغمساً في البحث في ماهيّة المرأة هل هي من البشر أصلاً أم لا!

ولم تكن هذه الفكرة محصورةً في أذهان آحاد الرجال من الفلاسفة، بل كانت هي النظرة السائدة لدى العديد من مفكري الغرب وحتى لدى الطبقة العامة في تلك المرحلة، وبما أنّ الفلاسفة والمفكرين هم الفئة النخبوية التي صدّرتها تلك المجتمعات على أنها قادة التّنوير -حيث امتازوا بكثرة الأتباع والمؤيدين والجماهير- فكان من المنطق والصواب استقراء ملامح وخصائص أفكار تلك الشعوب من خلال استقراء أفكار فلاسفتهم ومفكريهم، فكانت النساء في تلك المجتمعات الغربية محلّ تحقيرٍ دائمٍ بسبب اختلافهن عن الرجال، ولم تكن هذه النظرة السلبية مسيطرةً على الأذهان فقط، بل انسحبت على السلوكيات تجاه المرأة حيث اعتبروهن عاجزاتٍ وغير قادراتٍ على أداء الأمور المهمة على الصعيد السّياسي والاجتماعي والإداري وذلك بسبب ضعف قواهنّ الجسديّة والفكريّة وامتلاكهن للروح والمشاعر الانفعالية والفروقات البيولوجية، فحُرِمت بذلك المرأةُ من المشاركة في الأعمال الخارجية، وحُصِرَ دورها في المهام المنزليّة والاهتمام بالزوج والأبناء وخدمتهم، وكان مفروضاً عليها أن تحيا من أجل الآخرين فقط مع تسلميها الكامل بهذا الواقع!

في حين أنّ البعض الآخر كان منغمساً في البحث في ماهيّة المرأة هل هي من البشر أصلاً أم لا!

فكل هذه الأفكار الجائرة والظالمة والعنصرية، وهذه السلوكيات غير العقلانية وغير العادلة في حق المرأة كان لا بد لها أن تُواجَه وتُجابَه بثورة مضادّة قوية وهَزة عنيفة تُرجِع الأمور إلى نصابها، وتُعيد بناء المفاهيم على أساس حقيقة الوظائف الإنسانية المنوطة بكل جنسٍ في ظل غياب الدور الفاعل للمؤسسة الدينية المنوط بها ضبط العلاقات على مستوى المجتمع ككل ومستوى الأفراد بشكل خاص.

وبالرغم من أنّ النّسويّة مرت بثلاث مراحل أساسية على مرّ تاريخها، بدأت بالمطالبة بالمساواة بين الجنسين في الحقوق ثم انتقلت إلى المطالبة بالانفصال التام عن سيطرة وتسلط الرجل إلى أن انتهت بسلوكيات تأباها الفطرة مثل الامتناع عن الإنجاب ورفض العيش في ظل أسرة والشذوذ الجنسي تحرراً من المسؤوليات التي تقيّدهن، إلا أن ظهورها ابتداءً كان مبَّرراً وله مسوغاته المنطقية والمعقولة.

وما تنادي به بعض النساء المسلمات اليوم من مساواة تامة بينهن وبين الرجال لا يُعد إلا أن يكون ظلماً لها

وإذا انتقلنا إلى المشهد الإسلامي نرى أنه منذ اليوم الأول لنزول الوحي كيف أنّ المرأة حظيت بتكريم بالغ وأُعطيت حقوقها بما يتناسب وكيانها البنيوي وبما يحفظ كرامتها ولا يضيع حقوقها أمام عهد طويل من تسلط العادات والتقاليد الجائرة ضد المرأة في المجتمع الأعرابي الجاهلي، فجاء الإسلام بالأحكام التشريعية التي تحقق التكامل الوظيفي بين الرجل والمرأة على أساس التّواد والتّراحم، فالنساء شقائق الرجال وُجِدْنَ لتحقيق أهدافٍ أقرّها الشارع، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) 56 الذاريات، وقال جلَّ شأنه: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) 228 البقرة، فتحقيق العبوديّة أول مهام هذا الإنسان مشمول به الرجل والمرأة على حد سواء، كلٌ له وظائف ومهام ومسؤوليات وواجبات، ووجودهما وجود وظيفي وتكامليّ لا وجود تنافسي وإقصائي.

فلا يُتصور الحديث عما يُسميه البعض بـ (النّسويّة الإسلاميّة) على غرار النّسويّة الغربيّة في ظل وجود شريعة إلهية جاءت وفصّلت بدقة الوظائف والمهام الملقاة على عاتق الرجال والنساء معاً دون شطط ولا وكس، فلا تكاد تجدُ لها مُتّسعاً ولا مبرراً في واقعنا الإسلامي إلا بمسوغ التقليد الغربي الأعمى، استجابة للأهواء ورغبة في الانحراف عن الفِطرة السّويّة، والحياد عن المراد الذي خُلِقت لأجله هذه النفوس.

ولا نفتأ نجد مسألةً خاصةً بالّنساء إلا وأصّلَ لها الشارع، فنرى تخصيصا لها في النّصوص القرآنية والحديثية، وقد أفرد لها العلماء في اجتهاداتهم مساحات شاسعة في الفقه الإسلامي حتى نجد فقه خاص بالمرأة تحدّث في مسائل شتى مثل أحكام الزواج والطلاق والحمل والولادة والرضاع والحضانة والطهارة والإرث وضوابط عملها وتعاملها مع قرينها الرجل وغير ذلك الكثير.

وما تنادي به بعض النساء المسلمات اليوم من مساواة تامة بينهن وبين الرجال لا يُعد إلا أن يكون ظلماً لها في غفلة منها عن إدراك هذه الحقيقة، لأن المساواة تعني تحمّلها أعباءً إضافية على أعبائها الأساسية التي لا يستطيع الرجل القيام بها لاختلاف الطبيعة البيولوجية بينهما، فتكون هذه المساواة سبباً في ظلمها لا إنصافها.

فإن المنطلقات التي دفعت إلى ظهور النسويّة في المجتمعات غير الإسلامية انتفت ابتداءً في المجتمعات الإسلامية وبذلك لا معنىً لظهور مثل هذه الفلسفات أو الحركات في الثانية إلا إذا كانت طبيعة التّمرد والرفض نفسها مقصودة لذاتها رفضاً واعتراضاً على أحكام الشريعة وضوابطها، وقتئذ نقول إنّ النّسويّة الإسلاميّة ترفض الإسلام أساساً لا الممارسات الذكورية الجائرة فقط، وهذا مما لا يتصور حقيقة للتناقض الحاصل، وحيث إنّ الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوّره فمعالجة المسألة تكمن في إدراك حقيقة الإشكالية عند المُنتسب أو المنادي بحقوق ما يسمى بالنسويّة الإسلاميّة!

ومن وجهة نظري لا يعدو أن يكون الأمر إلا تقليداً أعمى لكل ما تُنتجه لنا آلة الحضارة الغربية دون عميق تمحيص وطول سبر في مدى جدوى صلاحية هذه المنتجات سواء كانت فكرية أو مادية!

وكما يقول ابن خلدون “إنّ الأمّة الضّعيفة مولَعة بتقليد الأمّة القويّة التي تحتك بها، ولكن لمّا كان تقليد الفضيلة أصعب من تقليد الرّذيلة كان أول ما تأخذ الأمة الضعيفة من الأمة القويّة الرذائل التي يسهل تقليدها”.