حاتم علي “الاستثنائي”!

حاتم علي

غصة في القلب ووجع قاتل يشل الروح ودموع تنهمر  والخلاصة المريرة أن اسماً لامعاً بحجم “حاتم علي ” غادرنا على حين غرة ليترك المشهد الفني السوري والعربي يتيماً يندب حظه ويبكي فارسه الأنيق المهذب الخجول الذي عاش مخلصا وفيا لمبادئه وقناعاته وأفكاره النيرة وقدم “وثائق بصرية ” يحفظها وسيحفظها المتلقي والذاكرة عن ظهر قلب ؛ كيف لا وهو من واجه نكباتنا بمنتهى الأمانة وأعاد تشخيص الداء ووضع الإصبع على الجراح النازفة فأبكانا مع حكايات “ابو صالح ” والتغريبة الفلسطينية ليفتح ملفات الأندلس العتيقة انطلاقا من رحلة “عبد الرحمن الداخل ” في “صقر قريش ”  مرورا  بأوج ازدهار حواضر الأندلس في “ربيع قرطبة ” ثم  بداية أفول القمر العربي هناك وعصر الشقاق والخلافات في “ملوك الطوائف ” ومع الأسف لم يكتمل المشروع من خلال “سقوط غرناطة ” كما ظل يردد برفقة شريكه المبدع الدكتور وليد سيف .

من الطبيعي بل من الواجب  أن يبكي ويرثي الجميع حاتم علي

وعلى سيرة الأخير لطالما كتبت شخصياً ومع حلول كل شهر رمضان أننا نتوق لعودة هذا “الثنائي الذهبي ” الذي لن يتكرر في تاريخ الدراما العربية ورغم كل الاكراهات وما يجري في “سوق ” الانتاج العربي وحالة التردي التي بلغها والتي لا تتماشى على الاطلاق مع ما يطرحه وليد سيف وحاتم علي الا أن الأمل كان دائما يراودني لاسيما مع وجود بعض “الاستثناءات ” في مجال الانتاج لأن الأسماء البارزة صاحبة المشاريع الحقيقية “اعتكفت ” بعيدا كي لا تشوه تاريخها وكنا نرجو ان تنهي عصيانها هذا من خلال عودة الثنائي المذكور واليوم صار الجواب واضحا وحاسما بشكل قاطعي لان هذه العودة باتت مستحيلة لكننا لن نمل وسنظل نحتفي بما تركوه من مسلسلات “خالدة ” ابتداء من “صلاح الدين الايوبي ” و “التغريبة الفلسطينية ” ثم الثلاثية الاندلسية و ايضا العمل التاريخي الضخم “عمر ” .

كان من الطبيعي بل من الواجب  أن يبكي ويرثي الجميع حاتم علي من المحيط الى الخليج لأنه ليس ملكا لسورية وحدها فهو ظل مثقلا بهموم الوطن الكبير وحتى في اختياراته الفنية لم يميز يوما بين ممثل محلي واخر من قطر عربي ثان ؛ والدليل أنه بادر الى احتضان طاقات عربية حتى في مسلسلات محلية واجتماعية كان من الممكن بكل بساطة عدم ضمها من الأساس وهنا نذكر كيف ساهم في تقديم الفنان المغربي محمد مفتاح للجمهور العربي رغم المعاناة الشديدة للأخير مع اللغة العربية الفصحى فبعد أن شارك ضيفَ شرف في مسلسل “الفصول الاربعة ” في الجزء الاول ؛ “غامر ” به في دور بالغ الصعوبة في المسلسل التاريخي “صلاح الدين الايوبي ” وبشخصية “أسد الدين شركوه ” وباعتراف مفتاح نفسه ظل مصرا على مساعدته رغم ان  لكنته العربية كانت “كارثية ” حتى إن البعض اقترح عليه الاستعانة “بدوبلير ” لكنه رفض وظل متشبثا برايه بقدرة الممثل المغربي على اداء الدور ؛ليواصل كسب رهانه من خلال اسناد ادوار اخرى وبلغة الضاد لمفتاح لعل اكثرها شهرة هو شخصية “بدر ” رفيق درب “عبد الرحمن بن معاوية ”  في مسلسل “صقر قريش ” .

وهناك نماذج أخرى عربية قدمها لنا المبدع حاتم علي على غرار التونسي “غانم الزرلي ” في مسلسل “عمر ” والسوادني الراحل قبل فترة ياسر عبد اللطيف في مسلسل “الزير سالم ” واسماء اخرى لا تعد ولا تحصى ؛وفعل الشيء ذاته مع مواهب شابة في بلده والجميع يتذكر كيف اسند دور البطولة للممثل الشاب “سامر اسماعيل ” في مسلسل “عمر ” في خطوة باغتت الكل حينها وفعل الشيء ذاته مع النجم تيم حسن في مسلسل “الملك فاروق ” بمصر وكسب الرهان وفرض على كل المنتقدين حينها الاعتراف بأننا امام مخرج يمتلك عيناً ذهبية لا تخطئ.  وتكرر الأمر مع نسرين طافش في “ربيع قرطبة ” في شخصية ” صبح البشكنجية ” وهي مازالت طالبة في المعهد العالي للفنون المسرحية واخرون كثر من اكتشاف الراحل.

واكبت مسيرته بشكل دقيق وهو بالنسبة لي وللكثيرين من أبناء جيلي أكبر من مخرج وممثل وكاتب مبدع

الحديث عن اسم بحجم حاتم علي لا يمكن اختصاره في مقال واحد وبالأخص لأنني شخصيا واكبت مسيرته بشكل دقيق وهو بالنسبة لي وللكثيرين من أبناء جيلي أكبر من مخرج وممثل وكاتب مبدع وكل أعماله أو بالأحرى مشاهد مسلسلاته مرتبطة بمرحلة عمرية معينة ولها مساحة وازنة في ذاكرتنا لذلك احسسنا بالفقد وهول الخسارة ؛ فعلى سبيل المثال مازالت مشاهد “الزير سالم ” وقصائده وحوارات “كليب و الجليلة ” و سهرات “الزير وهمام ” ترن في أذهاننا؛ وفي الدراما الاجتماعية لم ولن ننسى كوميديا “برهوم وشادية ” ولا حنية المحامي عادل على ابنته نارا و لا مواقف نجيب و انسجام كريم ونبيلة ودفئ العائلة في هذا العمل الملهم ؛ كما ستبقى قصة حب عزة و امجد في مسلسل “الغفران ” .. والكثير من التفاصيل والاعمال التي سنبقى نرتبها في ذاكرتنا ونعيد الاطمئنان والتأكد على أنها حاضرة وستبقى ..

واليوم بعد وداع عرابها وصاحبها الذي كانت جنازته رغم الظروف المأساوية الحالية اشبه بالمشهد التاريخي الذي  قدمه في رحيل الشاعر نزار قباني حين ردد كريم {الراحل خالد تاجا } ” الدنيا لسى بخير ..اذا بلد كاملة عم تطلع بجنازة شاعر ” ثم يمسح دموعه ..

وختاما نرجو ان يتعظ اغلب صناع الفن في وطننا العربي مما عاينوه من حب ورثاء للكبير حاتم علي لعل البعض يغير من حساباته ويتأكد أن الأعمال الهادفة الصادقة لا تموت كما أصحابها..

رحم الله حاتم علي