جدل الهوية بين الطيب صالح ويوليوس نايرير4

جدت حركات التمرد في جنوب السودان حاضنه أفريقية تعادي الثقافة العربية الإسلامية عداء حارقا وتجلت تلك العداوة في عدد من الحوادث والمذابح التي راح ضحيتها أعداد كبيرة من الأفارقة.

ذكرنا في المقال السابق كيف تشكلت الهوية العربية الإسلامية في  السودان لكن قابل هذا التوجه اتجاها آخر يتحيز للإفريقانية؛  كهوية جامعة تعبر عن أهل السودان.
تيار الأفريقانية بدأ منطقيا مع قيام حركات التحرر في أفريقيا نظرا إلي انتهاكات الاستعمار والاستبعاد.

ولعل الأحاسيس المتراكمة بالظلم أدت لتشكل الهوية الأفريقية ذات الأجندة التحررية، وبرزت من خلالها قيادات من أمثال يوليوس نايريري ونكروما ومانديلا وغيرهم من قادة التحرر في أفريقيا.  

علي سبيل المثال، قاد الغاني كوامي نكروما حركة التحرر عبر تأسيس  حزب  (المؤتمر الشعبي الغاني) والذي وحد الشعب تحت شعارات ثلاثه( السيادة ،  الحرية على الاستقرار مع العبودية، إنهاء الاستعمار هو الضمان للمستقبل).

في المقابل خرجت الأحزاب  في السودان من عباءة مؤتمر الخريجين و تباينت أجنداتها  بين الدعوة إلي استقلال السودان والدعوة إلي الاتحاد مع مصر، وبالطبع مثلت هذه الدعوات رغم وطنيتها رغبات دولتي الاحتلال الثنائي مما فتح المجال لاستمرار العلاقة والنفوذ للدولتين في فترة ما بعد الاستقلال والي وقت طويل.

 

خرج السودان أيضا من مرحلة ما بعد الاستقلال مثقلا ببذور الصراع والضغائن بين الشمال والجنوب مع بدايات التمرد المسلح في الجنوب وذكريات مذابح مدينة توريت قبيل الاستقلال.

يقول الطيب صالح في إحدي مقالاته معلقا علي مداولات مؤتمر جمعية الدراسات السودانية في واشنطن في التسعينات.. “اعتدنا في هذه المؤتمرات أن يطلع لنا شقيق من الجنوب يتلو علينا تهما ممجوجة، كيف أن العرب الشماليين استعبدوا الجنوبيين وهم أشقاء.. أعجب مافي الأمر انهم (الجنوبيين) يرون الفيل ويطعنون ظله، لم نسمع أو نقرأ لأحد منهم، يحقد على الاستعمار الأوروبي أو الإنجليزي.

يواصل صالح متحدثا عن الانجليز،لم يفصلوا الجنوب كما كانوا ينوون أول عهدهم، ولم يوحده، وتركوا أمر التعليم للارساليات التبشيرية ،تفعل ما تشاء وتزرع بذور العداوة والبغضاء..

وتابع ”لا يذكر بعض الجنوبيون دور تجار الرقيق الأوربيين إنما لا يملون من تذكيرنا بالزبير باشا، إنما الزبير باشا لم يكن تاجر رقيق، كان طالب ملك وقد أسس دولة أمتدت من تشاد حتي بحر الغزال وكادت تبقي لولا التدخل الأوربي“  وكان كبار قادة الزبير من الزنج بمن فيهم نائبه (رابح) إذ لم يكن شماليا بل كان جنوبيا من أعالي النيل..

وحقيقة الأمر أن الشماليين حملوا أكبر العبء في التصدي لجبروت الحكم التركي، ثم فظاظات الخليفة عبدالله أواخر العهد المهدي ثم صلف الانجليز أول عهدهم، وأخيرا ظلم ذوي القربي من الحكومات العسكرية المتعاقبة.

إنما بعض الجنوبيين يريدون أن يستأثروا دائما بدور الضحية، لأن في أمريكا وأوروبا دائما أناسا يطلبون (ضحية) يسعدهم أن يعطفوا عليها، حتي لو كانوا هم السبب في كون (الضحية) ضحية اصلا”.

وسط  الاستقطاب وغياب الفكرة القومية،  خرج جيل الاستقلال تقوده نخب عاجزة عن الفعل بعيدة عن هموم الشعب ولم تجد حاضنة شعبية سوي الطائفية السياسية
مع مرور الوقت تعاظم الفارق بين نخب الشمال والجنوب إلي درجة أشبه بالقطيعة مع استمرار الحرب والتمرد في جنوب السودان التي حرمت الجنوبيين من المشاركة في الانتخابات بعد الاستقلال.

وجدت حركات التمرد في جنوب السودان حاضنه أفريقية تعادي الثقافة العربية الإسلامية عداء حارقا  وتجلت تلك العداوة في عدد من الحوادث والمذابح التي راح ضحيتها أعداد كبيرة من الأفارقة المسلمين مثلما حدث في مذبحة توريت التي دشنت التمرد في جنوب السودان قبيل استقلال السودان في يوم 18 أغسطس عام ١٩٥٥

في ذات الوقت وجدت حركات التمرد في جنوب السودان حاضنه أفريقية تعادي الثقافة العربية الإسلامية عداء حارقا  وتجلت تلك العداوة في عدد من الحوادث والمذابح التي راح ضحيتها أعداد كبيرة من الأفارقة المسلمين مثلما حدث في مذبحة توريت التي دشنت التمرد في جنوب السودان قبيل استقلال السودان في يوم 18 أغسطس 1955 ورغم وجود المستعمر الانجليزي.

إن السلاح لم يوجه إلي الفيل بل وجه إلي صدور المدنيين من الموظفين السودانيين الشماليين.

توالت مذابح المسلمين في وسط وشرق أفريقيا إذ حدثت مذبحة بشعه في  أمارة زنجبار العربية العام 1964 وذلك عقب انقلاب عسكري دبره رئيس دولة تنجانيقا المجاورة القس يوليوس نيريري وقتل أكثر من خمسين ألفا من المسلمين.

أعقب ذلك ضم إمارة زنجبار إلي تنجانيقا لتكوين دولة تنزانيا الحالية ويصبح نايريري رئيسا لها، ليقوم بعدها بحملة واسعة لمحاربة اللغة العربية والثقافة الإسلامية وفتح المجال واسعا للتنصير.

كذلك حدث أمرا مشابها في إمارة بوغندا المسلمة التي دخلها الإسلام عبر التجار من السودان عام 1830،فقد قام الانجليز باحتلال بوغندا العام 1894وتم القضاء علي حكم الأمير المسلم نوح مبوقو كياباسينقا الذي جعل  الإسلام هو الدين الرسمي لمملكة بوغندا وأعقب ذلك الغزو الانجليزي دخول الارساليات المسيحية بعد توحيد الثلاثه ممالك (بوغندا وأنكولي وانيورو) لتكوين دولة أوغندا الحالية وتم نفي الأمير نوح خارج البلاد.

أيضا تعرض المسلمين في شرق أفريقيا للبطش حين تمكن  الأمبراطور منليك الثاني من اخضاع مسلمي أثيوبيا وخير الأمير الراس علي؛ بين النفي أو التنصير فاختار التظاهر بقبول المسيحية فسماه الإمبراطور باسم ميكائيل وزوجه ابنته التي أنجبت وريث العرش الأمير أياسو إلا أن الشكوك إسلام الوريث وتم عزله .

إن الازمة الحقيقية للسودان كبلد وكيان على مر العصور هو أنه مثل تجسيدا لما يمكن تسميته تمازج أو التقاء الهويات الخاسر في ميزان العالم

ولعل هذه اللمحات التاريخية المختصرة تشير إلي دور الأوربيين في اخضاع أفريقيا للاستعمار وتغيير الهوية عبر البطش والمذابح فقد قدرت ضحايا مذابح الملك البلجيكي ليوبولد بعشرة مليون أفريقي في منطقة الكونغو الا ان أمر التنصير وحصار الثقافة الإسلامية في حزام أفريقي لا يسمح للاسلام التمدد خلفه ظل هدفا معلنا كما كان شعار  القس الإيطالي دانيال كمبوني (تنصير أفريقيا أو الموت) ولعل الرجل كان مخلصا في قوله فقد مات في الخرطوم بعد إصابته بمرض الكوليرا.

ربما يجد المرء بعض ما يفسر سر هذا العداء الحارق في قول  الدكتور خالد محمد فرج :أن الازمة الحقيقية للسودان كبلد وكيان على مر العصور هو أنه مثل تجسيدا لما يمكن تسميته تمازج أو التقاء الهويات الخاسرة في ميزان العالم المعاصر.

والمقصود هو الهويات العربية والإسلامية والأفريقية (الزنجية)، ولا شك في أن هذه الهويات جميعها هويات ظلت تقابل من قبل الآخر الأوروبي بمشاعر سلبية باستمرار علي اقل تقدير، أن لم تقابل بالعداء والاحتقار.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها