الحروب البلوبونيزية والدروس المستفادة

يعتبر المؤرخ الإغريقي “ثيوسيديدس” في كتابه (تاريخ الحروب البلوبونيزية) أن النفس البشرية وقت الحرب هي نفس شريرة لا تتردد عن الأعمال القبيحة،ولا تراعي أي قيم للعدالة والإنسانية ولا كابح للعواطف لديها.
 وفي دراسته لأسباب الحرب بين أثينا واسبارطة، يعتقد “ثيوسيديدس” أن العلاقات بين الدول هي علاقات نزاع في الأصل، وفي ظل انعدام التكافؤ في القوة بين الدول؛ فإن المصلحة تقتضي تكيف الدول مع الواقع الخارجي لضمان حفظ القوة وبقاء الدولة؛  أو تواجه الدمار والاندثار مثل اندثار الإمبراطوريات والدول عبر التاريخ.
 دارت  الحرب البلوبونيزية بين ائتلافين كبيرين للقوى: العصبة البلوبونيزية تحت قيادة إسبارطة، وعصبة ديلوس(نسبة إلى جزيرة ديلوس التي تم اختيارها لتكون بها خزانة الحلف الأثيني المالية) بقيادة  أثينا.

شبه جزيرة البلوبونيز

وكانت إسبرطة قد توسعت بشكل كبير خلال القرن السادس قبل الميلاد؛ حتى سيطرت على شبه جزيرة البلوبونيز بفعل نظامها العسكري الصارم، وكانت كل من أثينا واسبارطة حليفتين خلال الحروب التي خاضها اليونانيون ضد الفرس .
إسبارطة كانت على الدوام “قوة عظمى”في بلاد اليونان؛ ولكن أثينا لم تصبح كذلك سوى بعد الحرب الفارسية، عندما تحولت إليهم الدويلات اليونانية المحاذية لبحر إيجة(بحر إيجة هو أحد فروع البحر المتوسط ويقع بين شبه الجزيرة اليونانية والأناضول).
حتى تقودهم في الصراع المستمر مع بلاد فارس،وذلك بعد ما قامت إسبارطة بسحب قواتها من بحر ايجة.
وقد أدى ذلك إلى تشجيع غالبية الدويلات الإغريقية أو إجبارها قسرا على الانضمام إلى أحد الحلفين، مثل مدينة ثاسوس التي تم إخضاعها بقوة السلاح عندما أرادت الانفصال عن الحلف العرقي.
 ما أن تم تفادى الخطر المباشر للاجتياح الفارسي، حتى قامت الدويلات المطلة على بحر إيجة بتشكيل عصبة ديلوس لمواصلة الكفاح ضد الفرس.
وسيطرت أثينا على هذه العصبة بفعالية كبيرة؛ لدرجة أن المؤرخين صاروا يشيرون إليها في سنواتها اللاحقة بالإمبراطورية الأثينية !
وهذا في حد ذاته(كونها أشبه بالإمبراطورية أو إمبراطورية بالفعل)  أدى مع مرور الوقت إلى زيادة الشعور بالحقد والغيرة بل والخصومة مع العصبة    البلوبونيزية .

يعتبر المؤرخ الإغريقي “ثيوسيديدس” في كتابه (تاريخ الحروب البلوبونيزية) أن النفس البشرية وقت الحرب هي نفس شريرة لا تتردد عن الأعمال القبيحة،ولا تراعي أي قيم للعدالة والإنسانية ولا كابح للعواطف لديها.

وإذا أضيف لكل ذلك ما وصلت إليه أثينا من ثراء فاحش ونمو اقتصادي كبير وازدهار علوم المنطق والفلسفة والرياضيات وترحيب أثينا بالمد الديمقراطي فإن ذلك كان يقابله لدى الحلف الأسبراطي حياة تتسم بالخشونة والتقشف والفقر تصاحبه أمية بين السكان فإن في ذلك في حد ذاته كان عاملا في زيادة الخصومة والتوتر بينهما.
 وقد وقعت الأزمة في عام 432 ق.م عندما التمست كرسيرا التي دخلت في صراع مع (كورنثة) التي تعتبر المدينة الأم لها إلا أن تدخل الأخيرة في شؤون كرسيرا الداخلية فجر الصراع بينهما، وطلبت وقتها كرسيرا المساعدة من أثينا فيما لجأت كورنثة إلى إسبرطة.
 كانت كورنثة حليفا لاسبرطة وكان الأثينيون يدركون تمام الإدراك أن مساعدتهم لكورسيرا ستؤدي إلى الدخول في حرب مباشرة مع اسبرطة وحلفائها..
 إلا أنه كان من الصعب عليهم مقاومة الالتماسات الصادرة من كورسيرا .
وكانت اسبرطة قوة برية وكذلك كان حال جميع حلفائها باستثناء كورنثة التي كانت تمتلك ثالث أكبر أسطول في بلاد اليونان .
أما أثينا فكانت قوة بحرية بشكل كامل إذ اعتمدت تجارتها وثروتها وقدرتها على السيطرة على عصبة ديلوس وعلى بحر إيجة، وكانت كرسيرا تمتلك ثاني أكبر أسطول في اليونان .
ولهذه الاعتبارات فقد تمكن مبعوثي كرسيرا  من إقناع الاثينين بأن الحرب بين أثينا واسبرطة أمر لا مفر منه وأن أثينا لا يمكنها أن تسمح بسقوط أسطول كرسيرا في أيدي حليف لاسبرطة

كانت اسبرطة قوة برية وكذلك كان حال جميع حلفائها باستثناء كورنثة التي كانت تمتلك ثالث أكبر أسطول في بلاد اليونان .

 ويرجع أسباب نشوب الحرب بين أثينا وإسبارطة إلى التحول في توازن القوى ففي الوقت الذي كانت فيه أثينا قوة صاعدة ومتزايدة كانت مخاوف الإسبارطيين تتزايد تبعا لذلك مما جعلهم يقومون بحرب وقائية ضد أثينا.

 وفي ذلك يعتقد “هيوم” أن السياسة الدولية في العصر اليوناني القديم كان تحكمها فهام توازن القوى يقول: سياسة الحفاظ على التوازن كانت واضحة , لدرجة يستحيل معها أن يكون قد غفل عنها الاقدمون الذين وصلنا منهم فيما يتعلق بالخصوصيات الأخرى علامات كثيرة تدل على عمق التفكير والتدبر.
 وقد اعتقد ثيوسيديدس بأن السبب الرئيسي للحرب كان ممثلا في تنامي قوة أثينا، وما تبع ذلك من مخاوف لدى اسبرطة.

ويعتقد أن مفهوم القوة والتوسع الامبريالي لدى الاثينين إنما يرجع إلى الدوافع الذاتية، ودوافع المصلحة لديهم ووفقا لمفهوم الإثينين فإن الأقوياء تدفعهم القوة لأن يحكموا غيرهم وأن الضعفاء لا يبقى لهم إلا الإذعان والاستسلام.
 أياً ما كانت الأسباب في اندلاع الحرب في تلك الأزمان السحيقة، فإن تعاظم  وتنامي قوة الدولة أو الإمبراطورية وما يتبع ذلك من دخول حلفاء وفواعل جدد لها وتحت لوائها.
هذا في حد ذاته ربما يقلل من مقدرة الدولة على فرض سيادتها على كل النظام عليه فإن أي خطأ يرتكبه حلف من الأحلاف المتاخمة.
 ربما تكون عاقبته وخيمة على الدولة أو الإمبراطورية، وربما يأتي بالانهيار الكامل للنظام مثلما انهارت الإمبراطورية الأثينية على عظمتها ورفعة شأنها وهذا هو الدرس المستفاد وربما دروس عديدة أخرى أشار إليها “ثيوسيديدس” والتي ربما تتشابه كثيرا  مع بعض الأزمات والحروب في وقتنا الراهن.

 

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها