الصحة النفسية: السواء والمرض..

التدريبات الرياضية تحسن الحالة النفسية للفرد

الصحة النفسية من وجهة النظر الاجتماعية هي التوافق مع طرائق وأساليب الحياة المجتمعية، بصرف النظر إذا كان هذا المجتمع سليما أو مجنونا.

إن المتأمل اليوم  في حياة الإنسان المعاصر،  وفي واقع ودائرة عيشه وما يعتريها من مشكلات وما يشوبها من توترات وما لحقها من تغييرات، يجد نفسه محاطا بوابل من الأسئلة لا تكاد تنتهي.

وذهنه مزدحم بأفكار تدعو إلى الدهشة والاستغراب، فالبيئة العالمية اليوم؛ وخاصة الحضرية منها ملوثة بأخبار تكاد لا تنقطع عن الحروب والفقر والهجرة والجرائم والصراعات والفضائح والأمراض والتطاحنات…

وأفعال الفرد والجماعات فيها تستعصي على الفهم والتفسير، والتصرفات والسلوكات لايمكن ضبطها أو التنبؤ بها، ووجهة بوصلة كل شيء مجهولة ومليئة بالتناقضات.

ولا قليل ضوء يلوح في نهاية النفق، فالدول تسعى بكل جهدها إلى امتلاك أسلحة تجعلها تتسيد على الإنسان وعلى الطبيعة، وتتسابق إلى السيطرة على جغرافية كل أرض بها مقدرات وثروات بكل السبل، وشتى الوسائل..

الصحة النفسية من وجهة النظر الاجتماعية هي التوافق مع طرائق وأساليب الحياة المجتمعية، بصرف النظر إذا كان هذا المجتمع سليما أو مجنونا

والعلوم كذلك تمضي قدما في طريقها واضعة الأخلاق على جانب، وثقافة الاستهلاك تغولت في جميع المجتمعات وتسربت إلى معظم العقليات، وأصبح الانسان المعاصر تائها في ظل كل هذه المُدْلَهمات، وبات السؤال يُطرح بإلحاح عن السواء والمرض أكثر من أي وقت مضى، ويصبح طرحه مشروعا أكثر استنادا لمواصفات الواقع المذكورة آنفا، فهل نحن أسوياء حقا(دولة وأفرادا وجماعات)؟

إن السواء والمرض مفهومان أسياسيان في مجال علم النفس وعلم الاجتماع والعلوم التربوية؛ وتعريفهما يتطلب الرجوع إلى سياق تاريخي وثقافي معين.

لكننا سنضيق دائرة الموضوع ولن نتناول المفهومين من زاوية علم النفس المرضي الذي يرتكز على مسلمة ديناميكية في هذه الجزئية وهي أن بين السواء والمرض شعرة أو كما كان سيضيف فرويد “كلنا مرضى نفسيون بدرجة أو بأخرى”،.

ولن نتناول المفهومين من مقاربة احصائية تُخْتصر في لغة الأرقام، كما أننا لن نقترب من هذين المفهومين من زاوية موضوعية صحية لأنها تنبني على مواقف وأحكام قيمية واضحة، لكن سنحاول التعاطي مع هذين المفهومين من خلال مقاربة اجتماعية.

يرجع لفظ باتولوجيكPathologique  إلى الجذر الإغريقي باتوس pathos  والتي تعني المرض (اللاسواء)، وكلمة سوي/عادي normal  تعود إلى الأصل اللاتيني Nomra التي لها معنى “القائم، أو وسيلة تسمح بوضع ارتكاز مثلث قائم الزوايا”.

و الحالة السويةNormalité  تعني ما يتوافق مع المعايير والقواعد. ونشير هنا أنه لا يمكن التمييز بين المرض والسواء اجتماعيا بناء على بعض المواصفات كالذكاء والطول والوزن…لأنها تتعلق بالمقارنة ما بين أشخاص في وضعيات متشابهة.

لذلك فدلالة الصحة (السواء) في سياقها الاجتماعي تتطابق مع الحالة العقلية لغالبية أفراد المجتمع، فالصحة النفسية من وجهة النظر الاجتماعية هي التوافق مع طرائق وأساليب الحياة المجتمعية، بصرف النظر إذا كان هذا المجتمع سليما أو مجنونا، مريضا أو مشوشا، فالأساسي هو أن يكون الفرد متوافقا مع المجتمع.

التدريبات الرياضية تحسن الحالة النفسية للفرد

 

وبمعنى أوسع فالأهم هو أن يكون التوافق، بغض النظر عن إن كان المجتمع مشوشا أو الفرد أعمى. ومبدأ التوافق يطرح ثلاث فرضيات أساسية فيما يتعلق بالصحة النفسية أو السواء، وهي:

1.    كل مجتمع سوي بحد ذاته.

2.    كل مرض نفسي هو انحراف عن نمط الشخصية التي يريدها هذا المجتمع.

3.    الهدف من الصحة النفسية والطب النفسي والعلاج النفسي هو إعادة الإنسان إلى طرائق الشخصية السوية (العادية).

وفي نظرنا أن هذه الافتراضات يمكن أن تنطبق على الفرد والجماعة والدول من وجهة نظر بحثية مع تغيير في الألفاظ والعبارات.

ولأن إثبات أو نفي هذه الفرضيات تبقى نسبية، فإن الواقع اليوم يسمح للأكثر تفاؤلا؛  أن يضع سلوك وتصرفات الدول والأفراد والمجتمعات في الخانة غير السوية، فالحروب تمزق الكثير من البلدان والتدخلات الأجنبية في شؤون الدول لا يحجبها الغربال، والنعرات في كل مكان حسب ما تطالعنا به الأخبار.

والمجتمعات ماضية في عادات الاستهلاك وأمراضها تكاد لا تنتهي من بطالة وتخلف وتسول، واستهلاك بدون حدود لتكنولوجيا المعلوميات، وانخراط مستمر في متاهة التبعية والتقليد الأعمى، والأفراد منخرطون أيضا في عالمهم الخاص حيث العزلة والاكتئاب وحالات الانتحار وتعاطي المخدرات…

 بين السواء والمرض شعرة أو كما كان سيضيف فرويد “كلنا مرضى نفسيون بدرجة أو بأخرى”،

فلا الحب والعمل يكفيان في ظل هذا الواقع للصحة النفسية كما يقر فرويد، ولا التوجه نحو الانتاج كما يؤكد اريك فروم، ولا تحقيق الذات كما يقترح ماسلو..

ولا غيرها من المحددات، كافية للخروج من حالة المرض واللاسواء اليوم، لأن العالم الداخلي والخارجي للأفراد يعتريه المرض واللاسواء من كل زاوية ومن كل حدب ومن كل صوب..، ولن يعود التوازن العام للأفراد والبيئة الاجتماعية إلا باتزان المجتمع والدولة معا.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها