تفاصيل الانقلاب الكبير في تونس

لقاء قبل أيام بين الرئيس قيس سعيد (يمين) ورئيس البرلمان راشد الغنوشي (يسار)

فليت المتآمرين يدركون أن الثورة التي يحاربونها قد أصابها الكثير من الهزال، فأدّت إلى ديمقراطيّة عرجاء، حيث يقدّم الفائزون في كل انتخابات ظهورهم ليركبها المنهزمون والفاشلون.

لقد انشغلنا في تونس بعدد من الانقلابات الصغيرة، حتّى وقع الانقلاب الكبير الذي كان مدمّرا، وإليكم التفاصيل كما تابعناها على الهواء مباشرة.

فوسائل الإعلام تواكب اليوم كل الأحداث الخطيرة التي تغيّر مصير الشعوب، وقد شاهدنا بفضل القنوات الإخباريّة المقتدرة، أطوار الانتفاضات السلميّة التي انطلقت شرارتها من تونس.

ومازلنا نتابع التقارير المفزعة عن المعارك الدمويّة التي أشعلها أعداء الحريّة في أرجاء الوطن العربيّ الكبير لمحاصرتها وإجهاضها.
المعركة هنا وهناك هي نفسها وإن اختلفت نتائجها؛ حُسمت في مصر، ومازالت مشتعلة في سوريّة واليمن وليبيا.

وفي تونس تطلّ برأسها مرارا لتهدّد انتقالنا الديمقراطيّ المتعثّر على نحو يذكّر بحرب باردة بين معسكرَيْن، أحدُهما ينتصر للثورة أو يدّعي ذلك (بالقول على الأقلّ)، والثاني يحنّ لعودة النظام القديم وترتيب البيت على الشاكلة التي ترضي أعداء التغيير.
هكذا تعيش تونس منذ سنوات على وقع المكائد الانقلابيّة، في انسجام عجيب مع مؤامرات من جنسها أدخلت ليبيا في فوضى مزمنة هي أقرب إلى الحرب الأهليّة.

والحروب الأهليّة لا ينتصر فيها أحد، إذْ تحل الهزيمة بالأوطان التي هي وقودها، فتدمّر مستقبلها بعد أن يُدفع الثمن من ثرواتها، حيث ينفقها الأشقّاءُ المتنازعون لشراء السلاح والدمار والموت.

لقد كانت أكثر الانقلابات العسكريّة والسياسيّة تحاك في الخفاء وتنفّذ بغتة، أمّا اليوم فإنّها بداية من الخطّة ووصولا إلى التنفيذ، تجري أمام أعيننا لحظة بلحظة: شاهدناها تنجح في مصر، وتفشل في تركيا، ويكتنف الغموض مصيرها في تونس، حيث يحقق الطرفان المتنازعان (بالتناوب) بعض الأهداف السياسيّة ولكنّهما يفشلان معا في حسم المعركة، وإنهاء الصراع.  
كانت الخطط متشابهة والمحاولات كثيرة، فاستمر الصراع بين أحزاب تتنافر حينا وتتقاربُ حينا آخر ضمن جبهات وتحالفات يتعارض بعضها مع المنطق الذي يقسّمها أيديولوجيّا إلى قوى “ديمقراطيّة تقدّميّة” وأخرى “رجعيّة ظلاميّة” حسب المعايير والصفات وصكوك الغفران التي تجود بها وسائل الإعلام في الداخل والخارج على فريق دون آخر.
إنّ المعركة إعلاميّة بالأساس، تقوم على خلاف لغوي بسيط في ظاهره، عميق في تداعياته.. فالمنطلقات اللغويّة تفسّر المواقف السياسيّة التي تعقبها، بل هي كمينٌ لا غنى عنه في معاركنا الكلاميّة الكثيرة، وقد تطاير شررُها في جميع الأزمات العربيّة، من الخليج إلى المحيط حيث تنقلب البلاغة بسحرها إلى سلاح فعّال للتأثير على الجمهور وتغيير موازين القوى المعنويّة.
وفي هذا السياق، بُذلت جهودٌ جبّارةٌ في وسائل الإعلام (المعادية للربيع العربي) للتشويش على تونس بوصفها منطلق الثورات التي تطالب بالعزّة والكرامة. فشوّهت تلك الذكرى الجميلة بغبار حملاتها المسعورة حتّى غطّى صورَ المتظاهرين السلميّين الذين هزموا الطاغية بن علي، وأزاحت عن الواجهة منجزاتِ التحوّل الديمقراطيّ من دستور وانتخابات وهيئات رقابيّة.

ليت المتآمرين يدركون أنّ الثورة التي يحاربونها قد أصابها الكثير من الهزال، فأدّت إلى ديمقراطيّة عرجاء، حيث يقدّم الفائزون في كل انتخابات ظهورهم ليركبها المنهزمون والفاشلون

طُوِيَ كلّ ذلك في علبة أرشيفٍ مهمل لإعدامه لاحقا، وفسح المجال لمعطيات جديدة تنظر إلى تونس باعتبارها البلد الذي يصدّر “المقاتلين” أو “الجهاديّين” بوصف آخر، أو “الإرهابيّين” كما يصنّفون اليوم.. فالأسماءُ بعضُها ينسخ بعضا على نحوٍ أوقعنا في مأزق حضاريّ شائك، ذلك أنّ الانقلاب اللغويّ الذي يتلاعب بالدوالّ ويخضعها لسياقات لا تناسبها، تسبّب في حالة من الارتباك السياسيّ في وطننا العربيّ عموما وفي تونس بالخصوص، حيث يُتّهم حكّامها بتسهيل دخول “المرتزقة” إلى الأراضي الليبيّة للقتال مع السرّاج أو للدفاع عن حفتر. والمعلوم أنّ كلّ طرف هناك يتّهم الآخر بكونه يضمّ في قوّاته “ميليشيات” من جنسيّات مختلفة.
ومن المفارقات العجيبة أنّ المعركة الكلاميّة المشتعلة منذ فترة لا تبرّئ أحدا من الرؤساء الثلاث، فالغنوشيّ “إخوانيّ” يتعاطف مع السرّاج، وقيس سعيّد “اليساريّ” حينا و”الشيعيّ” حينا آخر يساند (مع وزير دفاعه) خليفة حفتر،  والفخفاخ “الفرنسيّ” يتظاهر بالحياد، فيرفض التدخّل الأجنبيّ وينادي بحل ليبيّ ليبيّ… والمواطنون التونسيّون في حالة ذهول أمام القصف الإعلاميّ اليوميّ الذي ينقل لهم عراك النوّاب المنتخبين وحماقاتهم، واختلاف الرؤساء وغيرتهم على صلاحيّاتهم.

 أثناء تلك الانقلابات الصغيرة، وقع الانقلاب الكبير عندما تنكّرت قيادات تاريخيّة مناضلة لمبادئها، فتخلّت عن أهداف الثورة، وتاجرت بدماء شهدائها، وتحالفت حتّى مع أعدائها وجلاّديها لاقتسام الغنائم والبقاء في الحكم.

وشعبويّة الوزراء وانصرافهم إلى تحصيل المنافع الحزبيّة قبل مصالح الناس وانتظاراتهم… ويختمر كلّ ذلك الجدل في منصّات التواصل الاجتماعيّ فيزيّن للمتابعين مسألة الخروج في ثورة جديدة للمطالبة بحلّ البرلمان وتغيير النظام السياسيّ..
لكنّ الخطّة والجهات الخارجيّة التي تدعمها أثبتت فشلها في الكرّات السابقة بالرغم من حالة الاحتقان الاجتماعي الذي ولّدته الاغتيالات السياسيّة الخطيرة، فلم يفلح ذلك التأزيم في تحقيق الانقلاب على الخصوم وافتكاك الحكم منهم بعد اتهامهم بالإرهاب والتخابر مع جهات أجنبيّة، كما يُروّج اليوم في تونس بخصوص مكالمة بين راشد الغنّوشي وفائز السرّاج في محاولة ليست الأولى وليست الأخيرة لتكرار ما وقع في مصر عندما اتُّهِم الراحل محمّد مرسي بالتخابر مع حركة حماس.

وإجمالا لما تقدّم، نذكّر من يهمّه الأمر، أنّ الشعب التونسيّ واكب أطوار الانقلابات الصغيرة على امتداد السنوات العجاف التي أعقبت ثورة الحريّة والكرامة.

فوقف على فضيحة الأحزاب السياسيّة التي تأسّست على عجل ثمّ اختفت بسرعة، ومهزلة النوّاب الذين باعوا ذممهم لأصحاب النفوذ، وقفزوا من مركب حزبيّ إلى آخر لتحقيق مآرب دنيئة وإثراء غير مشروع، وانحراف النقابات التي عطّلت عجلة الاقتصاد لحماية أعوانها من المساءلة والحساب، وسطوة المفسدين الذين نهبوا الماليّة العموميّة بقوانين صيغت لتحصينهم من كلّ عقاب.
وفي أثناء تلك الانقلابات الصغيرة، وقع الانقلاب الكبير عندما تنكّرت قيادات تاريخيّة مناضلة لمبادئها، فتخلّت عن أهداف الثورة، وتاجرت بدماء شهدائها، وتحالفت حتّى مع أعدائها وجلاّديها لاقتسام الغنائم والبقاء في الحكم.
فليت المتآمرين يدركون أنّ الثورة التي يحاربونها قد أصابها الكثير من الهزال، فأدّت إلى ديمقراطيّة عرجاء، حيث يقدّم الفائزون في كل انتخابات ظهورهم ليركبها المنهزمون والفاشلون والمحترفون في خدمة الأطماع الداخليّة والخارجيّة. والتونسيّون في حيرة من أمرهم لا يعرفون من الذي يحكم، ومن الذي يعارض، ومن الذي يشعل الحرائق ويفسد الحرث والنسل.. تشابهت عليهم الأسماء، وتفرّقت بهم السبل، ودُفعوا إلى شقاق لا ناقة لهم فيه ولا جمل.  

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها