كيف تصبح لصّا محترما في تونس؟

البرلمان التونسي
البرلمان التونسي

ليس من عادة الحكومات التونسيّة أن تتعامل بحزم وجديّة مع المسائل الخطيرة، ولكنّ جهة أوربيّة أجبرت سلطاتنا على التحقيق في شبهة غسيل أموال طائلة.

إذا أردت أن تعرف كيف ينجو الفاسدون في تونس من العقاب فإليك الخطّة التي تقوم على نشر ثلاثة أخبار، الأوّل تافه ولكنّه يملأ الدنيا ويشغل الناس، والثاني خطير يمرّ مرور الكرام، والثالث أخطر منه ومع ذلك لا يسمع به أحد تقريبا.
ليس من الصعب التفطّن إلى القضايا التافهة التي تشغل انتباهنا وتفكيرنا لمدّة طويلة فتمنح الفرصة للفاسدين حتّى ينجزوا أعمالهم القذرة في أحسن الظروف ويرتّبوا نجاتهم من العقاب في أقصر الآجال. نلاحظ، على سبيل المثال، أنّ الشعب التونسيّ مازال مشغولا بتداعيات ما حصل قبل أيام تحت قبّة البرلمان حيث تسامر نوّاب الشعب إلى مطلع الفجر، يختصمون جرّاء لائحة تعارض التدخل الأجنبيّ في ليبيا، متبادلين الشتائم والاتهامات بالعمالة والخيانة..

والطريف أنّ معركتهم تزامنت مع موقعة تحرير مطار طرابلس، وقد حُسمت خلال ساعات قليلة، بينما ظلّ النواب التونسيون يتشاتمون على امتداد يوم وليلة، فناقشوا اللائحة وصوّتوا عليها نهارا، ثمّ أنفقوا ليلتهم في توبيخ رئيس المجلس الذي “تجاوز صلاحيّاته” وهاتف السرّاج لتهنئته بالنصر.
وعندما أدرك النوابَ الصباح وسكتوا عن الكلام المباح، دخل التونسيون في هرج ومرج، وانقسموا على منصّات التواصل الاجتماعيّ إلى فريقين يتنازعان الانتصار، ويقذف كل منهما  الآخر بالعار، حتّى إنّهم لم يلتفتوا إلى الفضيحة الكبرى التي مرّت أمام أعينهم مرور الكرام، كما أشرنا في حديثنا عن الخبر التافه الذي يُستعمل للتغطية على الخبر الخطير.

عندما أدرك النوابَ الصباح وسكتوا عن الكلام المباح، دخل التونسيون في هرج ومرج، وانقسموا على منصّات التواصل الاجتماعيّ إلى فريقين يتنازعان الانتصار، ويقذف كلاهما الآخر بالعار

كان يمكن أن يظلّ ذلك الأمر مجهولا، فليس من عادة الحكومات التونسيّة أن تتعامل بحزم وجديّة مع المسائل الخطيرة، ولكنّ جهة أوربيّة أجبرت سلطاتنا على التحقيق في شبهة غسيل أموال طائلة وقع تهريبها لشراء عقارات فاخرة بإسبانيا.

وتتحدّث المعطيات المنشورة عن مسؤولين ورجال أعمال تورّطوا في تحويل تلك المبالغ من العملة الصعبة دون علم البنك المركزي التونسي..

ولا يظفر الراغب في إرشادات إضافيّة عن المتورّطين بشيء يذكر، إذْ تتستّر المواقع الإخباريّة عن أسمائهم بوصفهم لصوصا “محترمين جدّا”، من أصحاب الفخامة والسموّ. ونجد في المقابل وابلا من المعلومات المفصّلة عن المدينة الاسبانيّة (أليكانتي / alicante) حيث حطّ ركب اللصوص التونسيّين من فئة  “الـ VIP”،  فنقرأ ما يلي عن [إحدى أشهر الوجهات السياحية المعروفة في العالم، وتقع على البحر الأبيض المتوسط، شرق إسبانيا وتضمّ ميناء على ساحل كوستابلانكا.

وهي خامس أكبر مدينة إسبانية من حيث عدد السكان، كما تضمّ المنطقة العديد من المعالم السياحية المتنوعة، على غرار قلعة “سانتا باربرا” التي تتموقع وسط المدينة على جبل بيناسانتيل. وتضمّ المنطقة أيضا ساحة لوسيرس التي تعتبر وجهة سيّاح العالم وتحتضن العديد من الاحتفاليات والفعاليات والمهرجانات، وهو ما دفع العديد من مشاهير العالم ومن رجال الأعمال من مختلف الجنسيات إلى اقتناء شقق ومنازل وعقارات في المنطقة].
لقد حرصتُ على تضمين ذلك الفيض الوفير من الاستطرادات التي جادت بها المواقع الإخباريّة المضلّلة، ليدرك القرّاء غايتها الواضحة، فهي مواقع محترفة في تهميش القضايا الخطيرة وإغراقها بالتفاصيل الجانبيّة التي تصرف الانتباه عن لبّ الموضوع، وتشغل الرأي العام بما لا يفيد.

وهكذا تتضح معالم الخطّة، سينجو المجرمون حتّى في آخر مرحلة من التحقيق، وسنجد لهم أكثر من ثغرة في القوانين الخرقاء لنخرجهم من السجن إنْ دخلوه، وسنرضي ضميركم بأضعف الإيمان فنعزل  قاضيا أو اثنين على أن يستمرّ الضجيج حتّى ينشغل الناس بالأمور التافهة وما أكثرها.

 

فالخبر الذي يتعلّق بالقضيّة الرئيسيّة استغرق سطرين اثنين، بينما صيغت بقيّة التفاصيل على شاكلة إعلان سياحيّ مجانيّ لصالح جهة أجنبيّة، وعلى نحو يغري عددا آخر من الفاسدين حتّى يلتحقوا بركب من سبقهم، فالطيور على أشكالها تقع، وقارب النجاة يتّسع للمزيد.
لقد نجا الفاسدون من الملاحقة والعقاب في ظلّ غياب المحاسبة القضائيّة الحازمة، ودليلنا هو الخبر الثالث الذي قلنا إنه الأخطر على الإطلاق ولكنّه يُحاط بالصمت الرهيب والتجاهل العجيب، لأنه يكشف لكلّ فطن كيف تتستّر الدولة على أبنائها من المسئولين المتورّطين في ذلك الفساد الجسيم.
يقول الخبر “إنّ المجلس الأعلى للقضاء أصدر قرارا بعزل قاضيَيْن وإيقاف آخريْن لمدّة شهرين عن العمل بعد أن أصدروا أحكاما مشبوهة تبرّئ بعض الموقوفين في الحرب ضدّ الفساد.. وقد بيّن التحقيق وجود شبهات في بعض الأحكام القضائية!”
وهكذا تتضح معالم الخطّة بفضل خبرنا الثالث الذي برق في سماء تونس واختفى بسرعة خاطفة. ففي جميع الأحوال، سينجو المجرمون حتّى في آخر مرحلة من التحقيق، وسنجد لهم أكثر من ثغرة في القوانين الخرقاء لنخرجهم من السجن إنْ دخلوه، وسنرضي ضميركم بأضعف الإيمان فنعزل  قاضيا أو اثنين على أن يستمرّ الضجيج حتّى ينشغل الناس بالأمور التافهة وما أكثرها.

ومن آياتها أنّ الشعب مازال “مزطولا” بالمناوشات بين أنصار الغنوشي، وأتباع عبير موسي.. أمّا النظام، فيبقى في حصن حصين ليؤمّن الحماية للفاسدين، ويهشّ بالعصا على الفقراء المساكين.. فالعصا لمن عصى، والسلام والأمان للّصوص المحترمين.

 

 

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها