اشتياق بطعم الاغتراب

الطاجين من أشهر الأصناف على المائدة المغربية في رمضان
الطاجين من أشهر الأصناف على المائدة المغربية في رمضان

كثيرة هي الأشياء التي قد تجعل هذا الشهر الكريم مغايرا لما سبقه. شهرا نعيش فيه مغتربين عن ذواتنا، عن أحبابنا، عن أصدقائنا، عن صحبة وسط جو من الألفة نتقاسم فيها أبسط الأشياء.

بعد أن كنت من المتابعين لأخبار الوباء اللعين “كورونا” الذي خلخل وشل موازين قوى كبريات الدول العالمية في جل القطاعات الحيوية التي أصحبت على شفا حفرة من الانهيار وكانت متابعتي هذه لرغبتي الملحة في معرفة أين وصلت نتائج البحث والتقصي في مجال الصحة العالمية للعثور على لقاح ينقذ البشرية من تفشي هذه الجائحة حتى لا نكون ضحايا أنظمة كبرى همها الأول هو بناء نيوليبرالية جديدة.

فمنذ فرض الحجر الصحي على المغرب يوم 20 من مارس/آذار 2020 بدأت تراودني أفكار وأفكار. كل واحدة تأتي باستنتاجات غير الأخرى، وبعدها أدركت أن فترة الحجر لن تنتهي حتى في الوقت الذي حددته الدولة في محاصرة الوباء بتاريخ 20 من أبريل/نيسان 2020 لكن تجري الرياح بما لا يشتهي السَفِنُ. بل حتى بما لا تشتهي الأماني!

وفور صدور القرار الثالث، والذي يقضي أيضا بأن الحجر مستمر، بفرض حالة الطوارئ حتى 20 من مايو/أيار 2020 وكأن العدد عشرين نذير شؤم على المغاربة، 

كثيرة هي الأشياء التي قد تجعل هذا الشهر الكريم مغايرا لما سبقه. شهرا نعيش فيه مغتربين عن ذواتنا، عن أحبابنا، عن أصدقائنا، عن صحبة وسط جو من الألفة نتقاسم فيها أبسط الأشياء رغم قسوة الحياة في ظل حرب يومية من أجل البقاء

فإن كآبة اعترت عموم الناس كرماد تناثر في زوايا موقد أطفئ قهرا في ليل شتاء قارس، أحاسيس أصبحت هشة كأوراق خريفية تتساقط تحت ريح خفيفة، كم ضاقت العبارات قهرا لمن كان يشتهي قضاء أول يوم في رمضان وسط صحبة كتبت عنها مخيلته الشيء الكثير يفترش له البيت وطنا والمسجد حضنا، يقبل عليه بخشوع وتضرع كي يبلل سجاجيده بدموعه لرحمته عز وجل.

كثيرة هي الأشياء التي قد تجعل هذا الشهر الكريم مغايرا لما سبقه. شهرا نعيش فيه مغتربين عن ذواتنا، عن أحبابنا، عن أصدقائنا، عن صحبة وسط جو من الألفة نتقاسم فيها أبسط الأشياء رغم قسوة الحياة في ظل حرب يومية من أجل البقاء.

أتحدث عن أسواق بلا روح، خاوية على عروشها بما لم تعهده من قبل، عن شعائر سوف تغيب على الشوارع في الأحياء والأزقة. الكل سوف يلبس ثوب الهجر القسري، ليالي كان لسهرها طعم خاص تدمع لها العين وتحزن.
في ظل هذه الظروف فالحالة التي تسيطر على عموم الناس، والشعب المغربي بصفة خاصة، هي عزلة وضياع ووحدة وهناك من فقد الأمان العاطفي.

لأن هذه الأزمة ستعرف شرخا وتصدعا عميقا في عدد من العلاقات، لحظة سوف تكون هناك تغيرات خاطفة ومتلاحقة، بعد أن كانت فيها المادة هي الطاغية بين الناس سوف تصبح التعاملات الإنسانية هي الأسمى، لكن في نفس الوقت سوف يحس معها البعض بالكثير من الإضطرابات والمشاكل الإجتماعية والنفسية، وفي مقدمتها الإغتراب الذي سوف تخلفه هذه المعاناة. اغتراب ليس بمعنى أن نشعر بعدم الانتماء، أو فقدان الثقة، أو الإحساس بالقلق والعدوان، ورفض المعايير الاجتماعية، وإنما هو اغتراب بطعم الاشتياق للحياة الأسرية، تزداد شدته بحلول شهر رمضان المبارك.

لأن الإنسان مدني بطبعه أي إنه يحتاج إلى وسط اجتماعي. ولعل كلام ابن خلدون يبين هذ الأمر حين يؤكد أن الإنسان عاجز بمفرده عن توفير أقل احتياجاته، وهو رغيف الخبز؛ حيث إن رغيف الخبز قبل أن يصل إلى مستهلكه على مائدة الطعام يمر بمراحل عدة.

 كذلك الإنسان في عاطفته وأحاسيسه لكي يفكر ويأكل وينام بشكل جيد لابد لقلبه وعقله أن يؤدوا أدوارهم بشكل جيد، ولن يتحقق ذلك إلا بوسط عائلي جيد. فالعلاقات الاجتماعية لا تقاس بمقاييس كمية، قد تطول وتكثر فيها معارف الانسان حوله، لكنه يبقى في عزلة واغتراب بسبب البعد عن العائلة التي تستحضر في كل لحظة يعيشها الإنسان.
وقبل هذا الوضع عشت طويلا بمبدأ أنني لست بمغترب عن أهلي. قد تطول  المسافة أو تقصر لكنني لا أعتبر نفسي مغتربا ما دمت في زيارة مستمرة لهم كلما سمحت الفرصة بذلك.

لعلها فرصة حقيقية نعمل من خلالها من جديد على بناء علاقاتنا الاجتماعية بشكل جيد، نصلح فيها ما يمكن إصلاحه، ونطلب السماحة على ما تم اقترافه

قد تمر فيها الأوقات أحيانا بما هو سيء لدرجة أصبحت الأمور عادية أطلق فيها العنان لنفسي بصوت خفي ماذا بعد؟ أشعر من خلالها أن حاجزا كالصرح العظيم قد بني في داخلي يريد أن يطلق معه صرخة قوية تقول لا شيء قد يعجبني وأنا في رمضان مغترب ووحيد كما قال محمود درويش:
لا شيء يعجبني
لا الراديو ولا صحف الصباح ولا القلاع على التلال
فلعلها فرصة حقيقية نعمل من خلالها من جديد على بناء علاقاتنا الاجتماعية بشكل جيد، نصلح فيها ما يمكن إصلاحه، ونطلب السماحة على ما تم اقترافه، وألا نفرط في سمو العلاقة العائلية ومدى تأثيرها في حياتنا، ألا نفرط في قريب ولا صديق ولا زميل كان يتعامل معنا كقيمة مضافة وليس كهدف لحظي، وأن نحسن الظن بمن لم نكن نعرف حتى لا تكون ذواتنا مغتربة في حياتها قبل مماتها.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها