حب وشوق وكورونا

ترمب يدعو الله ويدعو الناس إلى الصلاة، وتونس تؤجل إجراءات الدخول في الاسلام وإيران تمنع صلاة الجماعة والكعبة تطاير من كان حولها يتدافعون وأما داعش فقد أخذ هدنة وفسح المجال لهذا الفيروس المستجد لحصد بعض الأرواح، لكن بطريقة أخرى. فكورونا لا ينتقي عرقا أو جنسا أو ديانة أو فكر ضحاياه، وبهذا فقد نجح في تحقيق نوع من العدالة الكونية التي أخفقت كل المحاولات الإنسانية في محاذاته.

“حب في زمن الكوليرا” رواية تشدق بعنوانها الكثيرون ولم أخل أبدا أن قصتها ستعاد في غير فيلم أو مسرحية، ها هي تعاد اليوم على أرض الواقع، لكن في زمن الكورونا. ما أصعب الأمر على المرء حين يضطر أن يبقى بعيدا عمن يحب، لا لمس ولا همس ولا عبارات خافتة في ليلة ممطرة من ليالي فينيسيا الشاعرية تمتص البرد وتستبدله بدفء المشاعر ولهيبها.

حب دون نظرة أو لقاء، حب عذري لكنّ التمنّع فيه ليس رغبة أحد الطرفين بل إن بثينة مجبرة على عدم رؤية جميل، حماية لهما.

 حب مجبور على البقاء وراء قضبان السوشيال ميديا، عبارات ينقلها المسنجر ومشاعر بالكاد يبلّغها وجه معبر من باقة الواتس آب، أما اللقاء فهو صدفة على حائط الإنستغرام.

 يا إلهي هل سأكون من بين المختارين لأشهد عصر ما بعد الكورونا لأروي لأولادي ما عشته!  ثم هل هذا خير لي؟ أيعقل أن يكون ما بعد أسوأ من الكورونا نفسها؟

الكابوس الحقيقي:

إلهي لقد كنت أتربع في أحد أركان بيتي في الطابق الحادي عشر، في بناية قديمة في مدينة إلازيغ التركية.. على شرفة تطل على اللاشيء أستمع لموسيقى بتهوفن، التي تزيد دقات قلبي سرعة كلما اشتد نسقها، وأنا أترقب الزلزال المدمر المنتظر، وأحيك كل سيناريوهات الفرار منه ثم أستبدل أخرى بها،أنفذ بها بأقل الأضرار ثم أستسلم لأسوئها وهو الهلاك وأتحضر له. حينها كنت أظن أن العيش بهذا الهاجس هو أسوأ ما يمكن أن يشهده المرء ثم اكتشفت بأني قادرة على التخلص منه بمجرد اتخاذ قرار ترك هذا البلد والعودة إلى موطني، وبذلك استطعت استئناف حياتي الطبيعية، حتى هاجمني وحش جديد، وهذا لا ناقة لي فيه ولا جمل، كابوس آخر لا يزول بمجرد الإستفاقة من الحلم. أذكر أنى أكره النوم لأنه يتفنن في إفزاعي ويوقظتي كل يوم على عبارة “الحمد لله أنه كان كابوسا” بصوت مرتعش. كان ذلك يعزيني بعض الشيء، لكن هذا الكابوس حقيقي فعلا.

كثيرا ما كنت أستعمل عبارة “كابوس حقيقي” حينما كانت المعلمة تطلب منا، في صف الرابعة بالمدرسة الابتدائية “فرحات حشاد” في أحد أحياء مدينة أريانة التونسية كتابة نص تعبيري نسرد فيه قصة مخيفة حصلت لنا، كان ذلك سنة 2007 كان   عمري ثماني سنوات.. كنت حينها مولعة بهدية أبي..حذاء ذي أرضية مضيئة، المهم، كنت أستعمل عبارة كابوس حقيقي في حبكة الحكاية التي لا تتجاوز الصفحة ونصف ببعض الإسهاب العبثي الذي أحاول به القول أني بذلت جهدا في هذا العمل فينطلي على “ستي”، وكنت وقتها أعتقد بأنها مجرد عبارة تهويلية لا غير، حتى وجدت نفسي سنة 2020 أعيش حرفيا هذه الوضعية.

فيروس مستجد، وباء ثم جائحة عالمية، حجر صحي،عزل لمدن وإغلاق للحدود من كثرة تكرار هذه المفردات فقدت حتى قدرتها على تنبيه الناس لخطورة ما يحصل.

الوباء:

كورونا لم يفرق الأحباب والأقرباء فقط وحتى مشاهد الناس وهم يودعون عائلاتهم أو يشيرون إليهم من بعيد ليس أكثر المشاهد تأثيرا، فلو كانت هنا القدرة على رؤية ما يحدث بين يديك ووجهك بالعين المجردة لتجلّت لك أكثر المشاهد درامية في تاريخ السينما الإنسانية، فكورونا فصل حتى بين أعضاء الجسم الواحد الذي اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وهذا عين ما تخشاه منظمة الصحة العالمية بالتأكيد على عدم ملامسة العينين والأنف.

كورونا أيضا يسبب حالة من الاضطراب النفسي، أو ربما ليس هو بل الأخبار حوله التي تصوره تارة على شاكلة الكارثة الكونية وتساويه بوباء 1918 الذي أباد 50مليونا من سكان هذه الأرض المسطحة، أو ربما هي مدورة فلنترك هذا الموضوع ، المهم كنت أقول إن الأخبار كأنها هرمونات أنثى مزاجية  تهول الموضوع تارة وتقزمه حتى يصبح مساوياً للبردة العادية تارة أخرى. أذكر أن جارنا الخنفشاري الذي كان ينصب نفسه موسوعة كونية كان يتفه كل الأمور حتى مات مرة بذبحة صدرية كان يقول إنها ألم في الضرس ويغرغر بالماء والملح ليشفى منه لذلك أنا لا أصدق هذا ولا ذاك، كما أن قدرت التحمل عندي قد اهترأت… لا مزيد من الأخبار سأكتفي بحدسي.

فوائد الكورونا

والله إن لكورونا فوائد عديدة. تخيل أنك ستركب المترو وحدك، تخيل أنك ستستطيع الجلوس في اي مقعد ليس ضرورة أن تختار مكانا بجانب النافذة حتى يتسنى لأنفك الخروج لثوان لاستنشاق هواء أقل ضررا من روائح العرق القاتلة.. ولن يجبرك حيوان إنساني يريد الركوب في حافلة مكتظة غصبا، على احتضان شخص لا تعرفه!

يالله إن الحياة في زمن الكورونا ليست بهذا السوء

أما الحجر الصحي فهو تجربة رائعة تسمح للمرء بالتعرف على نفسه التي سيمضي معها طول اليوم ولن يكون هناك شغل أو التزامات مهنية أو واجبات اجتماعية تقطع حديثهما، طبعا هذا الى جانب أنك ستصالح تلك الكتب التي التهمها غبار الرفوف، وستشاهد كل الأفلام التي كنت تؤجلها، في يوم واحد ولو استثمرت وقتك بالشكل الصحيح ربما تكون قادرا على تأليف كتابك الخاص أو حتى اكتساب مهنة جديدة دعك عن الخبرة الطبية طيلة فترة الحجر.

رغم بؤس ما جلبته الكورونا معها إلا أننا، لو نجونا منها طبعا، سيكون لدينا الكثير لنقوله ونفعله وربما تستبدلنا هذه التجربة فعلا بشعوب أكثر وعيا على المستوى الصحي، وأكثر تسامحا على المستوى الاجتماعي وأكثر إيمانا تجاه ما نعبد.

 

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها