إعادة البناء النفسي للشعب العربي(1)

1- التوصيف

إن الشعوب كما الافراد – تقوى وتضعف ، وتصح وتمرض ، ولها، كما للفرد، بناؤها النفسي كما الافراد .
فالغرور والتكبر والنرجسية وبارانويا العظمة كأشكال للاضطراب النفسي فإنها كما تصيب الفرد قد تصيب الجماعة أو الحزب أو التيار أو شعبا بأكمله ، فترى من يدعي أنه شعب الله المختار ومن دونهم عبيد ، وترى من يعلن أنه الجنس النقي الوحيد ومن دونهم خليط ، أو أنهم أبناء الله وأحباؤه ولن يعذبهم الله بذنوبهم – أو يصل الكبر والتشدد في الرأي الى حد الدعاء بالهلكة إن كان رايهم خطأ: “وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم” (الانفال).
وكذلك بارانويا الاضطهاد كما بارانويا العظمة .. فجماعات وأحزاب وتيارات وشعوب تعشق أن تعيش دور الضحية والتشكك الدائم في كل ما هو دونها – فتنغلق على نفسها – فتصبح جماعة منطوية أو تيارا منزو أو حزبا معزولا أو شعبا غريب الأطوار وبالطبع يسلك حالة من العدائية ضد الغير الذي يتآمر عليه .
قس على ذلك الكثير من الاضطرابات النفسية التي تتخطى الفرد لتضرب الجماعات والشعوب
أما الانفعالات من خوف وغضب وحزن وفرح  فهي كذلك تتعدي الفرد كحالة وجدانية عارضة  لتصبح عند بعض التجمعات البشرية ملمحا أصيلا وسمة لها  فتجد تجمعا سريع الغضب عصبيا ويبرر ذلك بأن دمه حام – وتيارا يخيم عليه الحزن ولو باسم الدين – أو الجبن باسم التقية أو الانحلال باسم الحرية أو التبعية باسم الطاعة..
وتتسع كذلك الصفات الشخصية ولا تقف عند فرد في جماعة ولكن لتصبح سمة أصيلة في جماعات أو شعوب بعينها – فتجمع بشري يتسم بالكرم وآخر بالبخل – وشعب يتسم بالقيادة والإقدام وآخر بالتبعية والخنوع – وجماعة شجاعة وأخرى جبانه – وتيار انتهازي وآخر واضح وصريح
وهذا ما جعل كثيرا من علماء النفس والاجتماع يشيرون إلى مصطلحات تحاول أن تجد رابطا يفسر هذه الرابط بين حالات الفرد وسمات المجموع ،فعالم الاجتماع الفرنسي اميل دوركايم مؤسس نظرية العقل الجمعي يُميّز بين ما يسميه بالتصورات الفردية التي ترتبط بالأفراد ، والتصورات الجمعية المشتركة بين الشعوب والأجيال التي تؤثر في سلوكهم دون وعي مباشر منهم .
وهذا كارل يونغ يتخطى مرحلة العقل الجمعي ليانج ليذهب إلى حد العقل الباطن الجمعي وميّزه عن العقل الباطن الشخصي الخاص بنظرية فرويد عن التحليل النفسي
ويكرر غوستاف لوبون في كتابه ” سيكولوجيا الجماهير” أن ثمة اختلافا واضحا بين العقل الفردي و العقل الجمعي في أسلوب ونمط التفكير.
فمن الممكن أن تجد أستاذا جامعيا راجح التفكير ولكنه داخل تياره أو جماعته أو تحزبه يصيبه نمط تفكير مختلف يطغى على تفكيره الحر الأصيل المتفرد ليصبغه بنمط تفكير نمطي.
ولذلك أصبح من الطبيعي أن تجد الكثيرين مهتمين بمعرفة الآخر من حيث  انتمائه أو دولته أو أحيانا محافظته أو هل هو قروي أم حضري صعيدي أم فلاح ليسهل عليهم عملية التصنيف و التنميط الآلي له ووضعه في حزمة فكرية يرونه من خلالها.
ولتقريب الفكرة أكثر يمكنك أن تقيسها على الأسر الصغيرة أو العائلات الكبيرة فكثيرا ما تجد أسرة أو عائلة سمتها الكرم أو البخل أو الشك أو الجدال أو عدم الاعتراف بالخطأ أبدا أو الكبر والتعالي ـ

عائلة متعالية

فكذلك الأمر يتسع من مجرد أسرة صغيرة مغرورة إلى عائلة متعالية إلى شعب عنصري .
بالطبع لا يغيب عن ذلك بعض الفروق الفردية و الخروج عن القاعدة للأفراد اقترابا أو بعدا عن تلك السمات أو الصفات أو الأمراض  ولكن تبقى القاعدة هي الأساس . لدرجة أن الجماعة تلفظ خبثها والخبث هنا هو عدم التماهي مع العقل الجمعي أو الرأي السائد فيها حتى يصبح الغريب قبيحا ولو كان صحيحا: “أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون” (النمل).
إن هذا الصبغ الجمعي للأفراد بالسلب أو الإيجاب يحدث بالتدريج – ودون أن يشعر الأفراد بهذا التحول في عقولهم – قد يحتاج الأمر لعشرات السنين لتحدث عملية الطباعة أو القولبة للأفراد .
إنها أشبه بحالة تمدد الصحراء في حالة التصحر – أو مد البحر الذي ينحت في اليابسة شيئا فشيئا
حتى إنه يحول شعبا من شعب محافظ مثلا إلى منحل أو من موحد إلى وثني أو من جماعة منفتحة إلى منغلقة أو من حزب مناضل إلى الساعي لرضى الملك أو من دولة عاملة منتجة إلى مستهلكة كسولة.
إن من يفطن إلى الأسلوب الذي تستشري بها حالة الضغط التي تمارسها الجماعة على أفرادها وكيف يتغير هذا العقل الجمعي ويتشكل ،فبالتأكيد يمكنه أن يتحكم في متغيرات شفاء وتعافي هذا الشعب أو تلك الجماعة أو هذا التيار،أو على العكس يمكنه أن يصيبهم أو يمرضهم عن قصد.
بمعني يمكنني أن أقوم بعمليات بعينها بهدف إصابة جماعة بالغرور والانتفاخ حد الانفجار أو الانتحار.
أو على العكس أن أقوم بعمليات محددة ومدروسة لإعادة الحياة إلى شعب مكسور أو منهزم ليتحرر من هزيمته النفسية ليمر بفترة تحول ونقاهة ثم الشفاء
– ولا يختلف كثيرا – من حيث الفنيات – علاج الفرد  وإحيائه عن علاج الشعوب وإحيائها
فنفس الرابط موجود وموصول بين العقل الجمعي والعقل الشخصي  ولذلك فشفاء الفرد شفاء للأمة: “ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا” (المائدة).
ولكن تكون أدوات العلاج مختلفة مع اختلافات طفيفة في الفنيات، فكما هو الفرق بين العلاج الفردي الذي يتعامل مع الفرد والعلاج الجماعي الذي يتعامل مع مجموعات صغيرة كذلك فإن علاج  أمراض الشعوب وإعادة إحيائها وتأهيلها يحتاج إلى أدوات وفنيات وبرامج محددة – ولكن يبقى الأهم في البداية هو التوصيف والتشخيص الجيد ثم العلاج. 

(يتبع الأسبوع القادم)
      

 

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها