فرنسا وجه للتسامح والثقافة وأخر للكراهية والعنف

كنت استمتع بالنظر إلى ملامح أمواج البشر التي تمضي غير أبهة في الشارع الكبير صينيون أفارقة هنود ومولودون بيض بعيون ملونة وعرب وأنا من بينهم.

هالني منظر نهر السين وقد ارتفع  مستواه عن المعهود؛ مياه بلون الطمي تجري بسرعة كبيرة تحمل جذوع الأشجار وبقايا لا يظهر منها الشيء الكثير .
حملت من الضواحي الباريسية جريان سريع  سرعة ردة  فعل القائمين على الثقافة في العاصمة الفرنسية.
إجراءات احترازية وأخرى ميدانية، لحماية الكنوز الثقافية العالمية المتراصة في المتاحف والقصور والأبنية العتيقة التي كانت ترقب تصاعد مستوى النهر مخافة الاجتياح والفيضان، حيث تم إخلاؤها من طرف السلطات المحلية خوفا من وصول غضب السين إليها.
فهي تعرفه جيدا، تعرف قسوته،ووحشيته فقد ابتلع في جوفه مئات الجثث ليعود ويلفظها.
طافية على سطحه على مر التاريخ شهدت أعنف وأرق قصص الحب والموت،  والكل شاهد على ذلك والأمثلة كثيرة، جاك بريفار الشاعر المثقف وفنان الشعب؛  و باول سيلان الذي انتحر بشعره  ورومانسيته في حضن هذا النهر؛ وفيكتور هيقو الذي فقد ابنته وزوجته فيه.
ولا تزال الذاكرة الجماعية الفرنسية والجزائرية والمغاربية والعالمية تتذكر بشاعة المنظر  عندما رمت الشرطة الفرنسية،  بأوامر من السفاح موريس بابون  بمئات المتظاهرين أحياء من أعلى جسوره، وأغرقتهم ببرودة دم.

 

وبجثث الضحايا من غرف حفظ الجثث لطمس أثار جرائمها أمام ذهول العالم وصدمته في مظاهرات 17 أكتوبر 1961 السلمية (والنصب التذكاري لا باسرال دو لافراتاغنتي  أو جسر الأخوة  ) شاهد على ذلك.
اليوم لا يمكن لأي مرشد سياحي أن يذكر ذلك أمام آلاف السياح من كل أنحاء العالم؛ لأن الأمر مشين ومخز لفرنسا؛ هؤلاء السائحون  الذين لا يبالون بالأمطار لتوثيق الحدث التاريخي  “ارتفاع منسوب مياه السين”، ولا يفرطون في زيارة المواقع السياحية الكثيرة في باريس؛ لأنهم ببساطة يتذوقون طعم الثقافة ويقدرون القيمة الجمالية والفنية والإنسانية التي تقدمها لهم مدينة الجن والملائكة.
باختلاف مشاربهم وأوطانهم ومعتقداتهم وميولهم وأهوائهم.. فهي تحرص على الإبقاء على صورة الأضواء والأنوار الجمال الباريسي.
 أحمر الشفاه القاني والحقيبة الأنيقة الحذاء ذو الكعب العالي  والدو نتال … أخر صيحات الموضة  والماركات العالمية في محلات الشانزليزيه الفاخرة؛   وأسطح المقاهي والمطاعم المكتظة بالناس تعرض أطباق العالم.. قوس النصر وتمثال الحرية نصب الحب للأميرة العاشقة ديانا  قرب نفق ألما.
دار الأوبرا ..و برج إيفل .. ساحة الجمهورية …أين  وضعت شعارات متضامنة مع غزة المحاصرة، وورود وشموع  لضحايا شارلي إبدو وشعارات للحب والحرية وأخرى للأقليات  المضطهدة.
 ساحة الكلمات بحي بال فيل التاريخي برسوماته التي تتنافس على الجدران في كل مكان.

اليوم  فقدت الكثير من بريقها وانطفأت أنوارها ..فرنسا لم تعد بلد الحريات والعدالة والمساواة .

تمازج ثقافي رهيب  لا وجود للنشاذ وسط هذه السمفونية الممتدة من حواشي نهر السين إلى ساحة اللوفر؛ وصولا إلى محلات الجزارة الحلال  وأقصى حي في الأحياء الشعبية التي تحاول أن تختبئ من مظاهر البؤس والفقر والعنف وكل ما يشوه صورة فرنسا المتحررة.
ملصقات الإشهار تعلن عروضها  في  المسارح والقاعات وفي الساحات العمومية.. تجمعات ومظاهرات لا تتوقف  الكل يجد  أفكاره وقناعاته ومطالبه، ويجد كذلك مكانه؛ في مجموعته مهما كان توجهه.
الكل يجد مساحة من الحرية في هذا الفضاء الثقافي  الذي يقبل بالاختلاف ويقبل الأخر فحال الثقافة في أي بلد معيار حال المجتمع والدولة بامتياز ؛ وصمام أمانها بحق.
كنت استمتع بالنظر إلى ملامح أمواج البشر التي تمضي غير أبهة في الشارع  الكبير صينيون أفارقه هنود و مولدون بيض بعيون ملونة وعرب وأنا من بينهم.

حين استوقفتني مجموعة من الكتب رصت بشكل مرتب عند عتبة باب خشبي أنيق لبناية قديمة؛ توقفت بشكل آلي لأنني أعاني من مرض تصفح الكتب ،أخذت كتابا أدبيا وأخذ ابني قصة للأطفال.
قد يقول قائل “كان هذا حال باريس والثقافة منذ زمن؛ بينما اليوم  فقدت الكثير من بريقها وانطفأت أنوارها” فرنسا لم تعد بلد الحريات والعدالة والمساواة.
أرد وأقول …”أنا لست مدافعة عن فرنسا لأنني أرفض رفضا تاما مواقفها من الجالية المسلمة ومن العنصرية و الإسلاموفيا المتنامية.
فهي لم تعد تحسب خطواتها وتختار كلماتها قبل أن يصرح مسؤولوها بالتزامات دولية وتدخلات عسكرية؛  ورطت منطقة المتوسط وجنوبه خاصة  في تجاذبات و  مخاطر كبيرة تهدد بنسف المنطقة بأكملها.

أين هويتنا العربية الإسلامية المغاربية ؟ فلن تقوم لنا قائمة ولن ترتقي أمتنا بالعلم والتعليم مادام الكتاب سلعة والتفكير جريمة والاختلاف خيانة والتجديد ردة.

كما أنني أدين فرنسا الاستعمارية لأن تاريخها مخجل وخذل مبادئها وقوض الكثير من إنجازاتها في مجال حرية الإنسان المساواة والعدالة.
 إنني أدافع عن الثقافة؛ وكم تمنيت لو أن العالم العربي يخرج من هذا التيه، أين هويتنا العربية الإسلامية المغاربية المتوسطية؟ تمنيت لو أننا ننشر ثقافة القراءة  وحب الكتاب.
فلن تقوم لنا قائمة ولن ترتقي أمتنا بالعلم والتعليم مادام الكتاب سلعة والتفكير جريمة والاختلاف خيانة والتجديد ردة.
واقتباس المناهج الغربية التعليمية وفرضها كما هي دون مراعاة اعتبارات التاريخ والجغرافيا والفوارق الحضارية.
مواكبة للعصرنة ورهانات المستقبل؛ فالثقافة في باريس وفي غيرها من الحواضر مادامت لا تتأثر بالصدمات الاقتصادية والمالية والتهديدات الأمنية وتنبعث من الحب والألم  كل يوم  حلي بنا أن نتحدث عنها وأن نثمنها لأننا بحاجة إلى ثقافة تبدأ من الطفل لتنتج لنا رجلا صالحا ومواطنا يحب الوطن لأن بلديته تحبه.
مثلما تقرأ في كل مكان شعار باريس تحبك؛ حينها فقط ندرك لماذا تقدموا هم وتأخرنا نحن!!..

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها