رسائل من الزنزانة

 

أعلمُ أنّه مازال باكرًا على جلوسي هكذا جلسة أراقبُ فيها عقارب الساعة ، علَّ معجزةً تسقطُ عليها فلا تحولُ أيُّ دقائقَ بين العاشرة والثانية عشرة ، نعم ، مازالت الساعة العاشرة ، ونعم أيضًا أجلس على كرسيِّ المقابل لساعة الحائط منذ ساعة ، لا بأسَ ببعض الانتظار ، فثلاثُ سنواتٍ كانت كفيلة بأن أعتادَ ، والحقيقة أنّني منذ اليوم الأول لهذه الجلسة لم ألقِ بالاً للانتظار، فاعتيادي على الانتظار عند الحواجز لعبور الحافلة التي تُقِلُّني لرؤيتك ، ألقت في قلبي حالة التأهب الدائمة والمستعدة لأيّ طارئ يحدثُ لي ، فأيّ انتظارٍ أطول من انتظاري لرؤيتك؟ 

وأيّ انتظارٍ أصعب من انتظارٍ يستمرُ لأيامٍ ثم ينتهي بدقائق معدودة أحظاها بقربك؟

أرجعْتُ رأسي أسنده إلى ظهر الكرسي وبدأ عقلي بإرسال إشاراته المعتادة كلما توقف به الزمن عند تنبُّههِ لجلوسي بهذا الشكل في هذه الساعات من كلّ جمعة، لم تكن إشاراته تحمل في طيّاتها أيًّا من البؤسِ بقدرِ ما تحملُ من ذكريات رسائل الساعة الثانية عشرة بدأت تتوافد رسائلك إلى مخيلتي من الرسالة الأولى إلى رسالة الجمعة السابقة، ربما ترتابُ قليلاً، أعذرك، فكمُّ الرسائل الذي أقضي في قراءة كل رسالة منها ما يقارب السّتَّ ساعات، كيف له أن يمرَّ كشريط ذكرياتٍ أمام ناظري بهذه السرعة؟ 

سأقطعُ الشكّ الذي أصابك: رسائلك بتُّ أحفظها عن ظهر قلب.

توقف الشريط كالمعتاد عند إحدى الرسائل، أطلقتُ ضحكة خافتة عندما جال عنوان الرسالة في مخيّلتي وكان (دعسوقتي) _ لقبي الذي أكره _، لا بأس، أعدتُ كلمات الرسالة التي كانت لا تتجاوز السطور الخمسة، نظرًا لسياسة الاحتلال التي تفرض عليكَ عدد الورقات وقطرات الحبر وعدد الكلمات أيضًا.

أطلقتُ تنهيدةَ ألمٍ عند هذه النقطة، ثمّ بدأتُ أراجع كلمات تلك الرسالة: “دعسوقتي ، لا تلقي سبابكِ عند قراءتكِ للعنوان سأبرر لكِ اختياري له، بالأمس عندما ألقيتُ برأسي على وسادتي المهترئة تذكرتُ لقاءنا الأول، كم كنتِ شرسة حبيبتي، وكم كان لكِ الفضل بالأمس في إضحاكي بسبب ذلك اللقاء، 

كنتِ قد وقفتِ يومها وقفةً معوجّة في الشارع العام، حينها أحببتُ استفزازكِ فقلتُ: كما الشباب تقفين، ألا ترينَ نفسكِ؟ 

لم تجيبي، فقلتُ: كما الشباب لكن لا بأس بجمالكِ.

ألقيت نظرة حارقة عليّ، فقلتُ: تتصنعين الصلابة والقوة وأنتِ لم تتجاوزي ال 150 سم، وضحكتُ عليكِ، لم يكتم ضحكتي شيء سوى يدكِ التي هوت على خدي حين قلتِ: 160 يا أحمق ،160 سم طولي، ومشيتِ.

أما العنوان فلا مبرر له، فقط أحببتُ أن أذكِّركِ به، وألقي سبابكِ كما تشائين الآن، 

أحبكِ.. ” 

ضحكتُ على محتوى الرسالة ونظرتُ إلى الساعة، فوجدتها قد شارفت على الثانية عشرة، أعددتُ نفسي لتلقِّي رسالتك، وأخذتُ أُهدِّئ من روعِ دقات قلبي الثائرة..

وأعلنتْ الساعة إفراجها عن الثانية عشرة، فتحتُ رسالتكَ وبدأتُ بالقراءة: 

“حبيبتي  …

أعلمُ أنّكِ ستطلقين ضحكتكِ الباهتة التي لطالما أخبرتُكِ في رسائلي السابقة أنّني ألاحظها وأنّني أتألمُ لبعدي كلّ البعدِ عن مقدرتي لرسمِ أخرى تنبض فرحًا، ولكن سأخبركِ 

مع أنّني أظنها أسطورة، سأخبركِ: 

 مع كلّ شعرة كانت تسقطُ من شعرات رموش عينيّ أثناء انسجامي مع ذكرياتنا، كنتُ أضعها على طرفِ سبابتي وأتمنى أمنية، وكانت الأمنية ذاتها في كلّ مرة، وهي أن نلتقي تحتَ سقفٍ واحد، لا يهم أيّ سقفٍ سيكون، المهم أنني سألقاكِ، ثم أطلق العنان لهواءِ رئتيَّ المعبّقِ بأمنياتي سامحًا له بأخذِ الشعرة مع طريقه علّها تتحقق. 

أحبكِ.. “

وكما توقعت أصحبت الساعة الخامسة فجرًا، خمسُ ساعاتٍ في تأملي لكلماتكَ، كنتُ قد سألتكَ عندما أعطيتني هذه الرسائل عن سببِ كتابتها، قلتَ لي يومها: ليبقى وصالُ الروح بيننا دائمًا. 

لم يكن بوسعي الرد، كما ليس بإمكاني الرد الآن على رسالتك سوى بتخليدها وردّي عليها في أعماقِ ذاتي التي تتوقُ لك. 

أحبكَ.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها