لم يكن مرحّبا بهم

 

لو أنّنا عند المشكلات نعترف بأخطائِنا ونتحمّل مسؤولياتنا كاملة من دون أن نبحث عن أخرين نعلّق عليهم ذنوبنا ومن دون أن نحاول بأي شكل من الأشكال أن نوظّف الأمر لصالحنا لما كرّرنا الأخطاء نفسها والخيبات نفسها ألف مرة.

لم نكن نريد التطبيع مع كلّ ما هو سيئ ولكن

لقد مللنا من أن نتكلّم دائما ولا نسمع سوى صدى كلمتنا، مللنا التّدوين على مواقع التّواصل الاجتماعي رغم أنه أحيانا يشفي غليل قلوبنا، مللنا جفاء المسؤولين وتجاهلهم لاستغاثاتنا الكثيرة. لم نكن نريد التّطبيع مع كلّ ما هو سيء و مهين ولكن يبدو أنهم حققوا مبتغاهم وها نحن كلّما حدث طارئ أو جدّت مصيبة ننتفض ليومين في الفضاء الأزرق بكاءً و تغريدا وعند التّصعيد نحتجّ لساعات ثم يموت الحادث فينا مثلما مات الرّضع في صمت و يوضع الملف في الدّفتر و يدفن الدّفتر في غياهب الرّفوف كما وضع الرّضع في العلب الكرتونية و سلموا إلى أهاليهم ليدفنوا في القبور و يخرس أمرهم إلى الأبد ثم لا نسمع عنه شيئا؛ فقط يرى المقربون دموع آبائهم كلما زاروا ذاكرتهم وتتفرد الأمهات بإحساس اللّهيب الذي يحرق قلوبهنّ و يعجزن عن وصفه لأحد.

تبكي الثكلى ابن بطنها الذي جاء للحياة ولم يكن مرحبا به فسرعان ما غادرها؛ ونراها فتؤثر فينا دموعها ونقاسهما حزنها لسويعات، قد نذرف الدمع ونلملم كلمات العزاء والمواساة بمرارة ورغم ذلك لا أحد فينا يمكنه فعلا أن يفهم ما تشعر به أمٌّ انتظرت تسعة أشهر مولودها الذي جادت به الحياة عليها بعد ثماني سنوات من المحاولة شمعة تنير عالمها لأيام ثم تنطفئ إلى الأبد وتطفئ معها كلّ نور.

ليتنا نستفيق ويتبين لنا أنه كابوس

مللنا المسرحيات ومللنا الأفلام ولم نعد قادرين على مشاهدة المزيد من الحقيقة المؤلمة، ليتكم تخرجون يوما لتقولوا بأن ما يحدث هو من وحي خيال الكاتب وأن الشخصيات والأحداث وهمية وأن ما بكينا من أجله لم يكن حقيقيا، ليتكم تخرجون يوما لتقولوا إنكم كنتم تخدعوننا وقد صدّقناكم ونصفق نحن لكم لقوة أدائكم وإتقانكم أدوار الشرّ والمكر والنفاق وتقمصكم شخصيات الفاسد والكاذب وعديم الضمير. ليت أحدا فيكم يربّت على أكتافنا لا ليقول “الله غالب، الله يرحمهم” بل ليقول “استفق يبدو أنك كنت ترى حلما مزعجا”.

مللنا السكوت ومللنا التجاهل ومللنا المتاجرة بأرواحنا وتحويل القضايا إلى فرص تصفية حسابات أو اختلاقها لذات السبب، موت الأحد عشر رضيعا لا يبدو أبدا كحادثة عادية بل هي أشبه بالقتل العمد لإثارة البلبلة وصرف النظر عن أمر أهم، فتونس تشهد في الآونة الأخيرة موجة كشف لحقائق مثيرة وإثارة لملفات خطيرة.

جرذان الإرهاب الجديد لا بدّ من أن يحاسبوا

سرعان ما وجدوا كبش فداء يقدمونه قربانا لتغفر خطيئتهم الجماعية، وكأن استقالة وزير الصّحة ستستأصل ورم الفساد الذي استفحل في جسد تونس منذ سنين؛ كأن دقيقة الصّمت التي فرضتها وزارة التربية في جميع المؤسسات التربوية تعبيرا منها عن استنكارها لفاجعة الموت الجماعيّ للرضّع سترتقي بمنظومة الصحة في تونس والحال أن ما يحدث اليوم يتطلب ولو دقيقة كلام ولو صرخة واحدة تهزّ عروش المسؤولين وتلقيهم خارجها حتى يعلموا أن الإرهاب ليس فقط فعل جرذان الجبال بل هم أيضا جرذان المناصب حان وقت تمشيطهم ومحاسبتهم.

أتعلم ما لأقبح من الذنب والأمرّ من هذا كله؟

هو أن الدولة أكلت حقوق الأولياء في رؤية واحتضان وتربية أبنائهم ثم لم تسلّمهم جثاميهم إلا بعد أن أخذت حقوقها الغير مشروعة منهم، إلا بعد أن دفع الأولياء تكاليف الإقامة في المشفى ذاته الذي قتل فلذات أكبادهم وسلمهم إياها في علب كرتونية، تلك العلب ذاتها التي حمّلها المسؤولون يوما ما بالمأكولات والملابس واشتروا بها أصواتهم يوم الانتخابات.

في زماننا صار كيلو الفلفل أغلى من حياة إنسان، فيما لا تساوى ضمائر المسؤولين قرشا واحدا ولو عرضت في أسوق الخردة.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها