الشعب ينظف الشارع والرئيس ينظف سدة الحكم

 

 

 البجعة السوداء، الغراب الأبيض وغيرها من النعوت استخدمت للتعبير عن الاستثناء العربي الذي أحدثته تونس، بلد الحربات الذي لم تجد الثورات المضادة طريقا له ولا سبيلا للحيود بمساره الديمقراطي وإدخاله في دهاليز الانقلابات والقمع والاستبداد بعد أن ألقته تحركات ديسمبر/كانون الأول ٢٠١٠ خارجها. ولعل أكثر الإجابات تكررا كلما طرح سؤال لماذا نجحت تونس في النأي بمسارها الديمقراطي عن التجاذبات المحیطة بها على خلاف الثورات الاخرى؟ هي وعي الشعب التونسي وإصراره منذ صرخة ٢٠١١ “بن علي هرب”، ألا یقترب من الحكم بن علي جديد، الأمر الذي أبقاه يقظا ومتابعا دائما.

الشعب التونسي يقلب الموازين

 لقد برهن الشعب التونسي في أكثر من مناسبة، ومازال یبرهن على أنه شعب فرید من نوعه وطفرة في العالم العربي. هو الذي نظر إلى الغرب فتعلم ونظر إلى العرب فاعتبر لخلق مزيج غربي عربي بجعله حديث شعوب العالم.

 انتخابات رئاسية دور أول فيها تنافس وتناظر ست وعشرون مرشحا بكل نزاهة واحترام تلتها انتخابات تشريعية كانت على قدر عال من الشفافية والالتزام بقواعد اللعبة الديمقراطية ثم دور ثاني للانتخابات الرئاسية ينصب رئيسا مستقلا ينتهي بتهنئة منافسه له من دون أدنى محاولة لتعكير صفو هذا العرس الانتخابي حتى باستعمال حق الطعن المباح وختاما الرئيس الجديد، رجل القانون قيس سعيد يؤدي الیمین الدستورية كما جري العرف ويتسلم السلطة بكل روح رياضة من الرئيس المؤقت ورئيس مجلس نواب الشعب السابق محمد الناصر. أما عن الحضور فهم رئیس الحكومة يوسف الشاهد، ورئيس مجلس النواب بالنيابة الشيخ عبد الفتاح مورو ووزیر الدفاع عبد الكريم الزبيدي. نعم هؤلاء كانوا منافسيه في الدور الأول. هل لك أن تتخیل معي هذه اللوحة الديمقراطية الراقية الجميلة؟ وهل لك أن تضع في اعتبارك وأنت تتخيلها أن هذا المشهد يحدث في بلد عربي؟ بالتأكد سيكون أشد جمالا وأكبر تأثيرا.

 إن المتأمل في التجربة الانتخابية الديمقراطية الأخيرة والناظر فیما أفضت إليه نتائجها لا بد له من الوقوف عند أمر في غاية الأهمیة، وهو كم الرسائل والعبر الهائل الذي أرسله الشعب لساسة بلاده وللعالم أجمع. إنه لیس من الطبیعي أن تخسر مؤسسات الدولة العمیقة، برئاسة حكومتها وسلطتها الدینیة والعسكرية، وزد علبها سلطة المال والنفوذ متمثلة في شخص نبیل القروي، الذي وقف وجها لوجه أمام سعید في الدور الثاني للانتخابات الرئاسية، وتنتصر الفكرة وتنتصر الاستقلالية وینتصر قیس سعيد بحملة على ظهر الدواب كما یقول. یبدو أن الرسالة الأكثر أهمية بين هذه الرسائل قد وجهت لمن ظن یوما أنه كسب ود الشعب التونسي بإغراء متاح له صعب على غیره، موجهة لمن یركبون على الأحداث، الساعین للتأثیر عن طریق ارتداء جبة العفاف بالتبرؤ من فرنسا عن الطريق التخلي عن جنسیتها، موجهة لمن یستغل نفوذه بمقامه واستعراض قوته بالتحدث عن إرسال الدبابات لمجلس النواب، وموجهة أیضا لمن حاول اللعب على البعد الوجداني للشعب التونسي وسار على الأقدام خلف موكب الرئیس الراحل الباجي قائد السیسي تحقیقا لوصیته. كل هؤلاء خاطبهم المواطنون عبر الصنادیق بطریقة حضاریة راقیة لم یستغربوها هم فقط بل أذهلت العالم أجمع وهي رسالة له أیضا.

 لقد فضّل الشعب التونسي، نجم المرحلة، نظافة الید ونقاء السریرة وصدق الخطاب رغم بساطته الشدیدة، فضلها عن المال والنفوذ واستعاض بها عن خطابات جافة ووعود متصلبة، جاهزة لینتصر لصاحب حملة “الشعب یرید” ظالما أو مظلوما وكله أمل في ألا یخذله هذا الأخیر معربا عن استعداده لدعمه وحمایته.

حملة نظافة في الشارع أنجبت حملة نظافة في السلطة

 عقب حسم الشعب التونسي قراره عبر صناديق الاقتراع دخل في نوبة وجدانية إيجابية أفضت إلى جملة من المبادرات والحملات تتعلق أغلبها بالنظافة ومقاطعة بعض قنوات التلفزة ومقاطعة البضائع الأجنبية وتشجيع بعضهم البعض على استهلاك كل المنتجات التونسية دعما للاقتصاد بل وتجاوزت ذلك إلى دعوات تشجّع العاملين على التبرع بیوم عمل للدولة التونسية. دعوات تفاعل معها حتى المعطلين عن العمل بالتبرع بـ 10 دنانير  كحركة رمزية.

 “حالة وعي” هاشتاغ اختار المواطنون أن یصفوا به هبة الثالث عشر من أكتوبر/تشرين الأول 2019 التي بدت في شكل حملة نظافة وطنية شاركت فيها جميع الفئات. حملات النظافة التي أطلقها الشعب في الشارع أطلق قیس سعيد شبيهتها في القصر فطلب رسمیا إعطاء الإذن لمصالح الرقابة المالیة لفتح تدقیق مالي شامل لكافة المصالح الإدارية لرئاسة الجمهورية خلال السنوات الأخيرة، كما تم بالاتفاق مع رئيس الحكومة إعفاء وزیر الدفاع عبد الكريم الزبيدي ووزیر الخارجية خميس الجهیناوي، وكاتب الدولة للخارجية حاتم الفرجاني و المكلف بالإعلام في الحكومة مفدي المسدي من مناصبهم. أما البعض فقد اختار الاستقالة قبل أن تشمله موجة التصفیة والإعفاءات على غرار سعیدة قراش الناطقة الرسمیة السابقة باسم رئاسة الجمهوریة و الأمیرال كمال العكروت. ماكینة القضاء هي الأخرى بدأت بتطبیق القانون حیث منع من السفر مالك قناة الحوار سامي الفهري وزوجته والمتصرفة القضائیة لشركة الإنتاج “كاكتیس” كما تم تنفیذ قرار هدم أشهر حانة في الضاحیة الشمالیة بإیعاز من مصالح الحرس البحري.

“الدخول بقوة” عبارة وصف بها التونسیون موجة الإعفاءات وكم القرارات المفاجئة هذه التي قام بها رئیس الجمهورية الجدید قیس سعید بطریقة مباشرة أو غیر مباشرة. وعلى الرغم من أن الكثیرین استحسنوها وأعربوا عن مزید دعمهم للرئيس الجديد وفخرهم بانتخابه وبما یقوم به، فإن البعض الآخر، ومنه جزء من مؤیدیه حذره من حماس شدید قد یجعل منه فریسة سهلة لأصحاب المخالب و الأنیاب من الفاسدین التي تمسّ مصالحهم. 

قیس سعید رئیس مختلف بالنسبة التونسیین هو الذي ارتقى إلى سدة الحكم من دون سند قوي سوى إجماع الشعب علیه، و من دون برنامج إنتخابي واضح سوى سمعته التي لا تشوبها شائبة، و هو الذي لم یدع مجالا للشبهة لولوج محیطه فطلب إحالة زوجته على إجازة مفتوحة دون راتب طیلة فترة حكمه حرصا على استقلالية القضاء و هو الذي ظل وفیا للمقهى الشعبي الذي یرتاده عادة حتى بعد فخامة وضخامة المنصب الذي فاز به وهو الذي اختار أن یكون القصر فقط مكتب عمله وأن یظل في منزله المتواضع رغم أن جل القصور من حقه، كل هذه المعطیات تذكرنا بالرئیس المصري الراحل مرسي و ما آل إلیه وتذكرنا أیضا بعض الشيء بالرئیس السابق المنصف المرزوقي وبالتالي تضاعف مسؤولیة قیس سعید الذي یحبّ فیه التونسیون أنه ابن الشعب ویخشون تكرار أحد هذه السیناریوهات مجددا.

يبدو أن مسؤولية قيس سعيد اليوم مضاغفة ويعود ذلك لارتفاع سقف طموح التونسيين وكبر حجم الآمال التي يعلقونها عليه. هو أيضا يعلم ويقر بأن المسؤولية هم ورغم وقد كررها أكثر من مرة لكن قدرته على التحقيق والتطبيق تبقى هي الفيصل في النهاية.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها