قبلاتي لابنتي الراسبة

لم أختلط طويلًا بجدتي “زينب” ربما لأنها كانت تعيش بالمنصورة بمنأى عن عاصمتي، لكن لطالما استمتعت بالنادر من الروايات التي وصلتني عنها سيما ما قيل من تذمر أعمامي صغارًا من موقفها المؤازر للراسب من أبنائها، إذ كانت تراه الأحق بالمساندة من الناجح الذي يكفيه أن طريقه كان ممهدًا بلا عثرات، عدا تفاخر الأهل به، إضافة لحلو مذاق النجاح الذي يهديه ثقة في نفسه منزوعة من كيان الراسبين.

فشريعة جدتي كانت تدعم الراسب لتضميد جراحه وإعادة بنيان الثقة لنفسه لتأكيد أحقيته في التقدير خشية أن ينقر سوس التحقير في شخصيته، فكانت تمد يد العزاء وساعد المواساة لمن تدفق الدمع من مقلتيه كالركايا، تستميل الزاحف بانكسار بربتة لتربط خطاه بسكة حديد الآفاق التي لا توصد أبدا.

كان إذا اجتمع في بيتها ناجح وراسب، فالأولى في مذهبها إسناد الساقط ولينصرف الناجح مدحورًا حتى تذوب الفواجع وتفنى المواجع وتعود لتبتسم قرائح الجريح. فالمؤازرة، الخروجة والهدية من نصيب الراسب لترميم المتهالك من هشاشة نفسيته خشية أن تخالج نفسه مشاعر عدم الاستحقاق للتقدير لمجرد سنة دراسية لم يَعْبُرُها.

كانت جدتي لا تترك راسبها إلا وقد وعى أن الإخفاق هو أحد مكونات كعكة النجاح، ثم إنها كانت تصر على حقنة بمواد إيمانية ودفعة أحاسيس متعاقبة نحتت وجدان سائر أبنائها تدريجيًا، ففهموا أن من الطبيعي أن يسقط المرء ليعاود الصعود كما كان لديها بذور ثقة أجادت زرعها في شتلات بستانها، فأثمر أبناءً واثقين بجدارتهم في حياة لائقة.

لقد فعّلت جدوى الحياة وجدارتها بالاستمرارية، فيوم فقدت ابنيها، بكت طويلًا، لكنها سرعان ما كفكفت واستفاقت لتعاود الخطوات الواثقة، ثم لطمة أشد ضراوة يوم احترقت ابنتها البكرية بنت السادسة عشر عروسًا وكانت صهباء، هيفاء، فبكتها حتى ابيضت عيناها، لكنها قامت ثانيةً لتعاود ممارسة الحياة بعين واحدة وامتنان كبير لرب ترك لها سائر صغارها

مضت جدتي لبارئها، وبقيت ثمالة التذكار تسكرني وتذكرني بجدوى وجودها في دنياي.

كانت جدتي خصبة كطمي المنصورة آنذاك، فأنجبت للمجتمع عشرة أبناء “أورجانك” بكامل عزة النفس وتقدير الذات، وقد لاحظت أن اثنين منهم حازا ثقة واعتزازًا بالنفس تكفي شعوبا بل وتفيض.

ما يدهشني أن لي أقارب أغنى من عائلة والدي، ما لمست منهم يومًا عشر معشار ثقة والدي وأعمامي بأنفسهم سواء استمروا في الخدمة أو أحيلوا للتقاعد، تمتعوا بالصحة أو ارتادوا المشافي، استمروا في زيجاتهم أم انفصلوا، غزر شعرهم أو أصابهم الصلع، فقد أتقنت جدتي فصل بذور الثقة في النفس عن أسمدة المعطيات الحياتية، فحصّنتهم ضد التخبط بين “ليت واٍه، ولو” أو من شظايا الاستعباد لتقدير الآخرين لهم من عدمه.

وبالمقابل لكثر ما عاشرت من معارف من علية القوم، إلا أن ثقتهم في كفاءاتهم معتمدة على المتخارج من معطيات الأقدار، سواء شهادة من جامعة أجنبية، زيجة مربحة، شعر ليلي ممهد، سيارة مكشوفة، جريمة مستورة، سيولة نقدية، أراض بناء، أو شهادة براءة من العقم.

والنتيجة أنهم لا يفتؤون يتقوتون بالتفاخر من موروثاتهم من نسب أو ميراث، كحيازتهم لبيانو الأميرة شويكار أو اقتنائهم لراديو ضخم لم ينزل في مصر سوى قطعتين منه واحدة ببيت الرئيس عبد الناصر والثانية بدارهم. وعلى هذا، رأيت منهم إدمانًا للسلف كما استجداء للمجاملة حتى أراقوا ماء وجوههم وأتلفوا مال إرثهم على السواء.

وكنت أحسب انعدام الثقة بالذات متلازمة مصرية صرفة، حتى صادف يوما كنت أتريض بالمجمع، فوجدت صبية شامية ريانة، أومأت لها بالتحية، ودعوتها لمصاحبتي. ودار بينا حوار عرفت من خلاله أنها فلسطينية، قلت:

 خمنت ذلك، فصدمتني إجابتها: لو كنتِ شاهدتيني بكامل تبرجي لقلتِ لبنانية.

ثم انضمت لنا شابة أخرى وعند التعارف، تداركت الأمر أكيد حضرتك لبنانية، فصدّقت حدسي.

نعم، لبنانية لكن صدقيني، بقليل من التزين يعتقدون أني باريسية.

لقد هالني المستوى المتدني لنظرتنا لأنفسنا، وتيقنت أن المرآة وحدها ليست أهلاً لمنح الإنسان شهادة ثقة حتى في هيئته. فكلمة إطراء قد ترفع منسوب ثقة الفرد في نفسه ككل – ليس في هيئته فحسب- فيما نظيرتها السيئة كفيلة بتقويض إحساس الإنسان بجدارته لاستحقاق التقييم الجيد.

فالمؤسسات التعليمية والبيت أخفقا في إدراك أن من أهم شروط عمران النفس هو سد حاجة العيش من التقدير لدعم بناء الأبناء في تكوين صورة صحيحة عن ذواتهم.

لقد وهبنا الله أبناء، هم أشد الكائنات حياة، فاجتهدنا لقتل الحياة فيهم، فلا غرابة أن نجد بناتنا يعلقن بأول عابر سبيل مهما كان رويبضًا بمجرد ما يلمح لهن أنهن جديرات بالإعجاب كونهن عطاش للتقدير.

إن للكلمة لقوة، فما بالنا بأب ينهال على ابنه بوابل من السباب، التقريع، الضرب أو المقارنات. أي منتج بشري متوقع من هكذا تدمير لأغلى ما وهبنا الله؟ ولصالح من يقترف الأبناء تلكم الشناعات بتكرار مطمئن من أي عقوبة؟

إن الصورة المشوهة للإنسان عن نفسه هي أبسط نتائج هذا الدمار العائلي المُهَنْدَس من قبل أسر ومؤسسات تعليمية تستبيح كرامة الطالب لمجرد أنهم آمنين من العقاب الدنيوي. فكم العنف المعنوي والمادي الممارس في بيوتنا يثاني ممارسات العنف في السجون.

وكيف لذاكرتي أن تتناسى ما سمعته من أحد أكابر المفكرين العرب حين اعترف بعجزه عن كتابة عمل أدبي بمستوى كبار أدباء الغرب، مع أن ما يتلفظ به هذا المفكر بشكل دارج، يسطرونه بماء الذهب، بل نتلقفه نحن الكتاب، كما يتلقف الفلاحون أمطار الغوث من السماء،  لكن المشكل أنه غُرس في أعماقه عدم لياقته ليطال قامة أدباء الغرب، حتى إنه مهما قيل له أن عمله الفكري يفوق ما سطروه ويعلو، فلن يصدق. على أنه يرتجل دررًا، وأعني بالارتجال افتقاده لفرص التصويب والتعديل.

يبدو أن الانسان ينظر لمواهب الآخرين ممن سبقوه بإجلال تستهين معه نظرته لما وهبه الله، مع أن الواهب هو الوهّاب، القادر على كسر القالب وخلق قوالب أفضل.

وجدير بالإنسان أن يثق في منحة الله وقدرته على خلق بشر مبدعين. فجملة ما فينا من حُسن ومواهب ما هو سوى وحي وتنزيل من غيث السماء وهباتها.

إننا نعيش موسم الاحتفالات بالناجحين وصورهم تعج بها مواقع التواصل، فألف مبروك للمتفوقين، لكني في الوقت ذاته أؤكد لأبنائنا ممن خالفهم التوفيق، أنهم بأعيننا نجحوا أم رسبوا.

ادعم صغيرك الراسب بالعناق، بالقبلات، بربته الكتف، بالتصفيق “بضغطة لايك”

ادعم ابنك بالبشاشة، بالقبول أو بالمساندة لحظة السقوط.

تلك أشياء مجانية لكنها ثمينة كونها ترفع قيمة المرء أمام نفسه والآخرين وتؤكد له جدارته ما يحول دون انجرافه لأصدقاء سوء، لأزواج أسوأ أو لأي فرصة يجد فيها المرء وردًا لكلمة طيبة اعتادها ولم يسمعها، فيرتج ارتجاج الأفلاك في مدارات من يستغل احتياجه للتقدير.

إني أعوذ بالرحمن منك أن تكون كمن حول صغاره كخراف اضطرها راعيها “غير الصالح” لقبول تناول الدريس العفن، حينما منعها من أبسط حقوقها في غذاء صالح لحياة كريمة.

ليست دعوة للإغراق في المدح ولا في الانسياق للقدح، فكلاهما كفيل بطمس حقيقة الإنسان ووعيه بحاله.

قبح الله من يتاجرون ببضاعة التقدير الصينية، أولئك القادرون على تحويل نفس الضعيف لخصم يهوي به في قرارات الخسران.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها