سحقا للسيادة الوطنية

  أعادني رفض ياسين العياري، النائب بالبرلمان التونسي، دون تلبية دعوة لحضور احتفالات العيد الفرنسي، من أجواء كأس العالم.

اسمحوا لي لأن أبدأ بفاصل شخصي. لم أكن يوما مولعا بكرة القدم ولعل ترشح المنتخب الوطني التونسي لنسخة 2018 لأعظم بطولة كروية هو ما دفعني إلى متابعة أجوائها، ليس من باب الوطنية، بل من باب كسر رتابة خانقة تخيم على تونس، فكانت تلك السويعات القليلة التي أمضيتها أمام شاشة التلفزيون بمثابة جرعات أوكسجين تبعث في روحي الحياة.

فاكتشفت في ما اكتشفت، قصصا مغايرة لتلك القصص الحزينة التي تتردد في أزقة حينا.

اكتشف مهاجما بلجيكيا، كونغولي الأصل، لم يسمع قط عن “الوطنية” فاختار قلبه بلجيكا ليصير من أشهر وأغنى مهاجمي العالم بعد أن كان طفلا فقيرا لا تقدر أمه حتى على توفير الحليب من أجله. وعن آخر، كرواتي مثل جسمه الهزيل عائقا كبيرا بالنسبة له، قبل أن تغدق عليه بلاده بكرمها. ورأيت في ما رأيت، صورا زاهية، على خلاف تلك التي ملأت ملاعبنا، لزوجة تحضن زوجها المدرب، والملعب خال من حولهما، بعد أن انهزم منتخب بلاده في الدور نصف النهائي، في مشهد ظننت أنه يكون سينمائيا فقط.

ومشاهد أخرى لمهاجم يقبل حبيبته فرحا بتسجيله هدفا حاسما، ومشجع يعانق طفله الصغير وفتاة تواسي والدها. لنعد إلى أصل الموضوع، إلى حيث أعادني نائبي، إلى حيث الحزن والحرب والإضرابات والمشاحنات والإقالات والتصريحات النارية. فقد ارتفعت في اليومين الأخيرين أصوات مبتهجة بفعلة ياسين العياري، وتردد الحديث من جديد عن الوطنية والسيادة وذاك المعجم الذي دائما ما تسلح به أعتى طغاة العالم. وبالحديث عن الطغاة، وباعتباري شابا تونسيا دمرت المجازر في سوريا والعراق ومصر وبورما، مراكز الإحساس في جسده وحوله الجلوس لسنوات في نفس الركن من نفس المقهى، والانتظار لساعات بمحطات الحافلات، والوقوف لأيام وسط الصفوف أمام المكاتب والإدارات، إلى جثة هامدة – باعتباري شابا بالمواصفات أعلاه- لم يعد ما يدور على الساحة السياسية المحلية منها والعالمية يؤرق مضجعي، حتى أنني صرت على استعداد لما هو أسوأ، ولعله قصف سعودي مجنون لدولة قطر، أو انقلاب إماراتي دموي في تركيا، أو احتلال إسرائيلي لكامل عالمنا العربي أو ربما قد قضي الأمر.

لكن حديث ياسين العياري، وما بحديثه خطأ، فالخطأ يكمن بي أو ربما هو خطأ وطني ومعلمي ووالدي ومحرر نشرة أخبار الثامنة مساء، -حديث ياسين العياري عن السيادة الوطنية- استفز ذلك المتمرد الذي بداخلي وعاد بي إلى حقبة أعتبرها الأسوأ في تاريخ عالمنا العربي والإسلامي، بدأت بتنصيب رؤساء لمن ولا يغنون من جوع، وانتهت بكهول احتلوا مكاتب المؤسسات العمومية ليرسخوا داخلها أسوأ الأخلاق من محسوبية وتخاذل وتكاسل.

فالسيادة الوطنية قد ارتبطت في نظري، أو في نظر جيل الربيع العربي عموما ممن لم تشتعل رؤوسهم شيبا بعد، بالديكتاتورية، بالقمع والتعذيب، ببشار الأسد وعبد الفتاح السيسي، بالمجازر في رابعة العدوية ودير الزور، بالفقر و”الخساسة”، باليأس والإحباط والحسرة، برجال شرطة ومخبرين ينتشرون في كل شبر من البلاد، بالمقابر والاختفاء القسري والإعدامات، بالأناشيد الوطنية و”المنشآت” العسكرية، بالمواطنين يقفون صفا أمام المستشفيات، ويتدافعون أمام القطارات.

السيادة الوطنية، وكلما قرأت هذا التعبير إلا وتردد صوت الديكتاتور جمال عبد الناصر في أذني، هي أن يقتل جيشك فلسطينيا على حدود مصر ويعتقلك بتهمة العمل لحساب الكيان الإسرائيلي. هي أن تحتل الطائرات الإماراتية سماء ليبيا بموافقة الجنرال حفتر، وأن يضمن بوتين بقاء رئيس سوريا، لا شعبه. هي أن يتحدث دحلان باسم الشعب القطري فيطالب بتغيير النظام هناك، وأن ينعم المواطن الأمريكي بأموال المواطن السعودي.

السيادة الوطنية هي أن تقصف سيناء بقنابل مصرية، وأن تمحق إدلب بأسلحة سورية وأن تشتعل اليمن بنيران مسلمة عربية. منذ أعوام، أذكر تصريحا لوزير دفاع تونسي سابق على موجات إحدى إذاعات الراديو، توجه فيه باللوم إلى الشباب التونسي العازف عن “الخدمة العسكرية” واتهمنا بنقص في الأحاسيس الوطنية، وهو حتما كغيره من السياسيين والقيادات العربية، ممن لم يفهموا بعد أننا لن نموت فداء للوطن، وسنعيش من أجله عيشة حرة هنية.

فرجاء اعفونا من كلمات سوداء وبيضاء!

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها