بَين زِنزانتيْن(1 )

هناك كان كل شيء غير مسموح به وقد اشتملت قائمة الممنوعات على العلاج، الورق والأقلام، وجبة واحدة، أدوات النظافة وفرشاة الأسنان، حتى الملابس كانت تُمزّق.

عندما كان يُسأل الأسرى عن كيفية تمكنهم من النجاة بعد شهورٍ أو سنين من العزل والتعنيف، كانوا غالباً ما يخبرون عن صحبةٍ شاركتهم ذلك العذاب أو يذكرون سماعهم صوت آذانٍ بعيد أو أصوات أطفالٍ يلعبون في منتزهٍ مُجاور.

عندما تنحسر الحياة بين جدران الزنزانة الأربعة يصبح وقع تلك الصحبة أو هذه الأصوات الخارجية أشبه بحبل الحياة الذي يؤكد للسجين أنه ما زال إنساناً وأنّ ثمة عالماً خارج إطار التعذيب العالق فيه

كلنا سجناء غير أنّ فئةً منا في زنازين ذات نوافذ، وفئة لا نوافذ لزنازينها، بالتأكيد لستُ أتحدث عن النافذة التي تسمح للهواء بأنْ يمرَّ إلينا في صُحبة خيوط النور؛ هذا لأنه على الرغم من أن البنية الجدارية لزنازين سجن “محلة دمنة” لها نفس الهيئة تقريباً، جُدر رمادية صماء، زنازين ضيقة تحت الأرض، نوافذ علوية تحجب عنا من شدة تشابك أسلاك الحديد فيها واقع الحياة خارجها، إلا أنه كانت هناك زنزانة بلا نوافذ!! 

تمكنت إدارة السجن وقتها من عزل السجناء السياسيين في زنزانتين منفصلتين عن زنازين الجنائيين، ومع الوقت أصبحت الزنزانة الأولى تَأوي العناصر الهادئة المطيعة والتي تتعامل معها إدارة السجن بنوعٍ من الشدة والإهانة لأنها تعلم أنها لن تلقى أية مقاومة من نُزلاء هذه الزنزانة

في الزنزانة الثانية الوضعُ كان مختلفاً كثيراً فقد كنتُ أحد أفراد هذه الزنزانة “المشاغبين” كما صنفتنا إدارة السجن. كنا مجموعة من طلبة الكليات ومعنا أستاذ من كلية الطب، وقد بذلت إدارة السجن مجهوداً كبيراً لكي تقطع حبال الصلة تماماً بيننا وبين هذه الزنزانة التي ارتضت أن تتخلى عن نوافذها وربما نجحت إدارة السجن في ذلك، فكنا لا نعرفُ أخبارهم إلا لماماً ولا نلتقي إلا لدقائق معدودة يوم واحد في الأسبوع أثناء خروجنا للزيارة.

الوضع كان قاسياً جداً في هذا السجن غير أنّ النفس تتخطى الكثير من العذاب حين يكون لها أتراب وزملاء في الأسى.

هناك كان كل شيء غير مسموح به وقد اشتملت قائمة الممنوعات على العلاج، الورق والأقلام، وجبة واحدة، أدوات النظافة وفرشاة الأسنان، حتى الملابس كانت تُمزّق، وحدث أن قاموا بتمزيق سروال أستاذ كلية الطب، والكتب بالطبع ممنوعة هي الأخرى، وقد قام أحدهم أمام عيني بتمزيق غُلاف المصحف بحجة أنه ممنوع! هناك السجين الجنائي يعتبر هذا السجن “مصحةً” له لأن السجائر كانت مُحرمة عليهم وهذه هي الحسنة الوحيدة للسجن.

اللحظات الأولى لنا في السجن أكسبتنا صفة “المشاغبين” بامتياز فبعد أن دخلنا على أهل الزنزانة الأولى رفضنا هذا الوضع وطلبنا مأمور السجن لنتحدث معه في هذا الشأن، ولكنه رفض أن يأتي إلينا.

سمعنا بعدها أصوات استغاثة في ممر السجن واتضح لنا بعدها أنهما اثنان من الطلبة قد تعرّضا للضرب المُبرح بعد أن رفضا أن يخلعا ملابسهما أو أن يقفا في وجه الجدار كنوعٍ من التأديب والإهانة، والأمر معتاد في هذا السجن، وربما يطلب منك ضابط السجن بعدها أن تنادي بعلو صوتك وهو يقول: “قول اسم أمك يالا…” معها كم لا بأس به من الشتائم، بدون تفكير تعالت أصوات هتافات داخل الزنزانة وكادت صيحات حسبنا الله ونعم الوكيل” أن تخلع الجدار، وكانت الأيادي تهز القضبان فيهتز الحديد وإن ظل مغلقا. فعندما يتعرّض أحدٌ منا للضرب يصبح هذا المسكين جلدُنا، ونحس وقع السياط عليه ونتأوّه

كان الوضع غريباً على أهل الزنزانة، إنهم يعجزون عن فهم ما يحدث ويُحار في تبرير موقفهم، حتى إنهم أسمعونا حينها كلماتٍ واهنة منها مثلاً بلاش مشاكل”  “انتوا كده محدش هيعملكو حاجة“.

إلا أننا لم نكن لنتخلى عن قضيتنا ولم نكن لنهدمَ نوافذنا، إننا لم نكن نبحث عن المتاعب بالتأكيد، كل ما في الأمر أننا كنا على أتم الاستعداد لمواجهة المتاعب التي لا يمكن تجنبها. إن أي إنسان يستطيع -حتى في أحلك الظروف- أن يقرر ماذا يريد أن يكون عقليا وروحيا، وأن يقرر أن يحتفظ بكرامته الإنسانية حتى في معسكر الاعتقال، وهو القرار الذي يحدد ما إذا كنت تنوي أن تخضع أو لا تخضع لتلك القوى التي تهدد بسلب ذاتك من حريتك الداخلية. ثوانٍ معدودة كانت كافية لإرباك إدارة السجن، وجاء المأمور ذليلاً يريد أن يتفاوض معنا في صحبة رجال الأمن والمباحث بعد أن فشلت أساليب تهديده، طلبتُ منه وقتها أن يسمح لنا بدخول الكتب الدراسية فقد كنت وقتها بالفرقة الثالثة بكلية الطب وبانتظار ترحيلي لسجن “المنصورة العمومي” لأداء امتحانات مادة الفارماكولوجي” بعد أيام، واتفقنا معه على ما يلي: دخول الكتب الدراسية ولكن بلا أوراق أو أقلام، أن يأتي العلاج لنا يومياً لنأخذ منه الجرعة الكافية، أن يُسمح لنا بدخول المصحف وفرشاة الأسنان، كما يُسمح لنا بعناق أهلينا في الزيارة بدلاً من زيارة (السلك) التي تمنع أي اتصال جسدي مع الأهل، وأخيراً ألا يتعرض أحدٌ منا للضرب أو الإهانة أو الحلاقة أو خلع الملابس والأحذية أثناء دخول السجن.

كان ذلك إيذاناً بعهدٍ جديد أدخلنا في حالةٍ من نشوة الانتصار والرضا.

بهذا الوضع، وبمرور الوقت بعد هذه الواقعة قامت إدارة السجن بعزلنا تباعاً في زنزانة ثانية فقد كانوا يخشون على أهل هذه الزنزانة أن يتعلّموا منا كيف يبنون نوافذ لزنزانتهم

شهدت الأيام تطوراً ملحوظاً واختلافاً بيّنا بين الزنزانتين، وهذا ما أتحدث عنه في الجزء الثاني للمقال.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها