الغموض والتأويل في شاعرية أدونيس

ينطلق الغموض عند أدونيس بوصفه قضية تخاطب الفراغ الذي يشعر به، واضطرابه الذي يتجلّى في كونه شاعراً حداثياً متمرداً على كل القيم والمبادئ.

الغموض والتأويل عند الشاعر علي أحمد سعيد المشهور بأدونيس يعد من صميم تجربته الشعورية، كان أدونيس شاعراً تأويلياً بلا جدل، ويتخذ في معظم أعماله الشعرية التأويلية أبعاداً متعددة تؤدي إلى تعدد المعنى، كما أنه يتكئ على الرمزية كمحطة ينطلق منها نحو النصية الشعرية التي يمكن أن يعمل فيها الناقد قراءته التأويلية.

فأدونيس في أعماله الشعرية يبحث عن الأقنعة التي تتخفى خلف رمزيته الصارخة بوصف تلك الأقنعة رمزاً يلتجئ إليها؛ ليضفي على صوته نبرة موضوعية، شبه محايدة تنأى به عن التدفق المباشر للذات التي تتمثل في القصيدة موضحاً ومتخذاً الرمزية أداة تعبر عن شخصية الشاعر.

كما يقوم التأويل عند أدونيس علىأساس من الرمزية والغموض، فالمفردات الشعرية الغامضة تحتاج منا إلى التأويل، والغموض يحتاج إلى تفسير وإيضاح، والغموض عنده مبنيّ على قضايا وتجليات يستخدمها الشاعر للتعبير عن فكرة ما لا يستطيع الإفصاح عنها لسبب من الأسباب؛ لذلك يلجأ إلى الرمزية.

من ذلك جاء المنهج التأويلي منهجاً يُعنى بقراءة النصوص الشعرية الغامضة مقدماً لها شرحاً وتفسيراً واضحاً، والمنهج التأويلي يعد من المناهج الشاملة التي توضح ما تعنيه النصوص وما تخفى خلفها من معانٍ ورمزية.

ينطلق الغموض عند أدونيس بوصفه قضية تخاطب الفراغ الذي يشعر به، واضطرابه الذي يتجلّى في كونه شاعراً حداثياً متمرداً على كل القيم والمبادئ، نلاحظ ذلك في قصيدة له في ديوان (أوراق في الريح) تحت عنوان (الفراغ) يخاطب ويصف فيها نفسه، وما تعرض له من حزن عميق مما حل بمجتمعه من عجز وفقدان أمل، ودعوته للشعب للنهوض وعدم الاستسلام، ودعوته للإصلاح والتغيير.

رمزية الفراغ عند أدونيس تشير إلى كل ما هو سلبي فهي تعني عنده الركون والخنوع وعدم الحركة وضياع الوقت فيما ليس فيه فائدة، وكل ذلك ماثل في المجتمع.

اعتمد أدونيس على نمط وصفي، فهو في هذه القصيدة يصف حال مجتمعه وما أصابه من داء، ويصف له بمهارة الأطباء الدواء الناجع، بدأ أدونيس قصيدته وكأنه يخاطب ذلك المجهول الذي هو ماثل في غربته الوجدانية يحيط به الفراغ من كل اتجاه.

حُطامُ الفراغ على جبهتي ** يمد المدى ويهيل الترابا

يُغلْغِلُ في خطواتي ظلاماً ** ويمتد في ناظري سرابا

يشكو أدونيس من ذلك الفراغ الذي حلّ به، فالفراغ عنده حطام يجثم على جبهته يمنعه من الحركة والتفكير، وما لفظة حطام إلا تلك الأشياء والمعاني التي تقابله في حياته اليومية، فهذه الأشياء تتجمع لتشكل فراغاً نفسياً يحل في عقل أدونيس، ويجعله خاملاً عاجزاً عن التفكير والتغيير.

وهذا الفراغ ليس أمراً وقتياً يرحل في أي لحظة، ولكنه فراغ يمتد ويمتد بطول مدى حياة الإنسان حتى بعد الممات ودفنه في التراب (حطام الفراغ على جبهتي ** يمد المدى ويهيل الترابا) فهو سجين الفراغ العريض الذي يكبله، ويمنعه من الحركة والنهوضللتغيير؛ لأنه ليس سجناً حسياً يمكن الخروج منه بعد انقضاء المدة، ولكنه سجن معنوي فكري (يغلغل في خطواتي ظلاما) يقود إلى التيه والظلام (ويمتد في ناظري سرابا) حتى إذا طاوعه وذهب نحوه وجده فراغاً وسراباً وتيهاً.

ورمزية الفراغ هنا عند أدونيس تحيل إلى ذلك الظلم الذي يجده المجتمع من الحكام والسياسيين، هو في مجتمع مهدد بالجهل والتشريد بسبب الحكام الذين حطموا كل القيم والمبادئ والأفكار التي تتجلى في حياة المجتمع، فغاب النجم عن الظهور وأظلمت السماء وتجمدت الأراضي، ورحل البعض مهاجراً إلى المجهول، حتى أصبحت البيوت كهوفاً لا حياة فيها بل هم حطام للفراغ.

حُطام الفراغ يُغيبُ نجمي، يجمد أرضي ويترك بعضي كهوفاً لبعضي ويجعلنا كالفراغ حطام الفراغ فهو حطام بفعل فاعل، يجعل المجتمع يعيش في جهالة ولا يهتم بالتعليم، بل يزرع قيم الجهل والتخلف في المجتمع حتى لا يتقدم المجتمع ولا يبصر ببصيرة العلم، بل يجعل المجتمع حبيس كهوف الجهل ويجعله فارغاً بلا قضية.

إن الرؤية التأويلية للفراغ عند أدونيس لا تخلو من رمزية سياسية يخاطب بها الذات والمجتمع، وتدفعه للنهوض ومطالبة الشعب والمجتمع بالنهوض وإحداث التغيير، مشبهاً حكام بلاده بالشبح الذي يتمطى، ودلالة الشبح هنا دلالة دالة على رؤية أدونيس لواقعه السياسي الذي لا يخلو من ظلم واستبداد.

هذا الشبح السلطوي الذي يتمدد كالسراب، ولفظة السراب لها مدلولها الذي يدل على اللاشيء الذي يقود إلى الجدب والعطش، والرمال التي تدل على الانقطاع والهلاك في الصحراء والضنك، فذلك الشبح الذي ملأ الأعماق يباساً ويملأها دكنةً وظلاماً محال أن يعقبه ضوء إلا بالنهوض لإحداث التغيير.

وفي أرضنا شبح يتمطى سراباً ورملا ويملأ أعماقنا يباساً ويملأها دكنة ومحالا إن الفراغ الذي أحدثه الحكام وفق رؤية أدونيس لن يمكث طويلاً فهم يرحلون، وسيوقد الصغار الشموع المضيئة، ويغنون بالنصر الأكيد تلك الأغاني البريئة التي تنشد الثورة، وكأن أدونيس قد تبنى بقيام الربيع العربي وما صاحبه من ثورات في تونس ومصر وسوريا، هي قراءة يمكن أن توصف بأنها قراءة ورؤية واضحة لمستقبل البلدان العربية التي تنبأ بها الشاعر في هذه القصيدة، يتجلى ذلك في تصويره في نهاية القصيدة غناء الأطفال وإنشادهم الثورة، كما فعل السوريون حديثاً وهم يغنون ويهتفون للثورة على بشار الأسد الذي يمثل الوجه الحقيقي لرمزية الفراغ.

صغار بلادي شموع مضيئة صغار بلادي يغنوننا أغانيهم البريئة يقولون: “في أرضنا ثورة تُفَجّر من أولِ حياة الغد المقبلِ وتفتح أجفاننا على الزمن الأجمل” يقولون: “في أرضنا يموت الذين أزاغوا وزاغوا يموت الفراغ” وفي صيحات الثوار وأهازيجهم يموت الفراغ ويتلاشى، وتزهر الأيام من جديد، وينام الساهرون وتفتح أجفانهم على الزمن الجديد، وصيرورة الأشياء وتحولها هنا عند أدونيس يعني التغيير السياسي الذي يطرأ على المجتمع، فيتحول من حالة الفراغ إلى الحركة، ومفردة الحركة هنا تدل على عدم السكون والجمود الذي كان الفراغ مسبباً له، ونهج أدونيس في هذه القصيدة قائم على النهج التصويري الإخباري، فهو قد جمع ما بين الوصف والإخبار بالحقائق التي تدفع الشعوب إلى النهوض والقيام بالثورة المنشودة، ورغم أن أدونيس مضى على تأليفه لهذه القصيدة ستون عاماً، فإنها تصلح لتكون وصفاً لهذا الزمن وما يحدث فيه من ثورات ربيع عربي، فهو تأويل سياسي يصلح لكل زمان ومكان، والرؤية التأويلية تتمثل في التمدد الزمني والمكاني، أو ما يعرف بـ”الزمكاني”؛ لما تمثله من رمزية للنهوض ضد الفراغ.

الغموض وما يتبعه من تأويل عند أدونيس من صميم دعوته التي جاهر بها دعوة الحداثة الأدبية، وما تنادي به في تصوراتها الشعرية، وأدونيس يرى في الشعر نظاماً خاصاً يبتعد بالكلمات من دلالاتها التي وجدت لها أصلاً، وأن لغة الشعر هي لغة إشارية يجب أن تبتعد عن الوضوح والإيضاح كما في لغة النثر، مما يؤدي إلى وجوب قراءتها قراءة تأويلية لتفكيك ذلك الغموض الذي يكتنف النصوص الشعرية.

والكلمة عند أدونيس يجب أن تأخذ معنى أوسع ومتعدداً مما تأخذه في النثر، وهي عبارة عن صورة صوتية وحدسية، وظاهرة الغموض صارت ملازمة للخطاب الشعري الحداثي الذي يمثله أدونيس خير تمثيل، بوصفه رائد الحداثة في الأدب العربي.

ويمكن أن نجد هذه الرؤية التطبيقية لظاهرة غموض النصوص الشعرية والسعي لتأويلها في قصيدة أدونيس بعنوان (قصيدة إلى الغريبة)، في هذه القصيدة وقف أدونيس موقف الشخص التائه العاجز عن الكتابة والتصوير، وهو يطرح على نفسه سؤالاً والدهشة تتملكه؛ لأنه لا يستطيع أن يكتب ولو حرفاً لتلك الغريبة العاشقة الصغيرة زوجته، حتى الورق يُخيّل  إليه أنه لا يطاوعه ويهرب من يديه متمرداً، ويصور تلك الأفكار بالحمامة التي تود أن تحلّق في سماء الكتابة وتعجز عن ذلك. 

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها