رسالة من مُعتقل: لو كان حسن البنا حيًا.. لفعلها

رحم الله الإمام البنا، لو كان حيًا لفعلها، لأخذ خطوة إلى الوراء وحافظ على الجماعة والوطن في آن واحد.

كعادة الليالي الأخيرة، لم تكن هادئة حتى مع خشوع جوارحي ودفن جثماني تحت الدُثر، في هذه الليلة كان السجن يضج بالتكبير والتحميد، كانت الأصوات تعلو من نافذة ضيقة بالأبواب الحديدية، كانت الأناشيد والهتافات والكلمات تعلن أن اليوم هو ذكرى استشهاد الإمام حسن البنا –رحمه الله- .

في هذه الليلة كان اصطخاب الأبواب المتلاطمة في رأسي على أشده، وأنواء الأفكار تدق على عقلي الصغير فتدغدغه، وكأنها تدق طبول الحرب عليه، فأكتم أنفاسي وأتترس بثيابي وأستعد لمعركة طويلة، أحاول فيها أن أُغمض عينيًّ، أن ارغمها على النوم، أحاول أن أروض ثورة عقلي كي تجنح للسكون فتأبى.

لقد كنت أصف الشباب هنا بالملائكة، كنت أفرح حين أرى ابتسامتهم وأسمع ضحكاتهم كنت أعجب لصبرهم وضجري، ورضاهم وسخطي، كنت أحس أن أرواحهم تحلق بعيدًا عن هذا المكان وروحي مغلولة بين الجدران وأنني ما زلت قيد بشريتي العاجزة، لا تزايلني الهموم ولا ينفك القلق والضجر.

لكن مع الوقت أدركت أن لكل منا نصيبا من بشريته لا ينفك عنها ولاتنفك هى عن صفاتها وخلقتها، تبين لي أن البسمة لا تخفي كدرًا، وأن الضحكة لا تكمد أنينًا وأن للصبر حدودا وللتحمل طاقة؛ إذا نفدت خر الحامل بحمله وانهارت عزيمته، وساعتها لا تدري في أي معسكر تجده، أو على أي أرض يقف.

إن للسجن قسوة تفوق الموت الذي ينقطع به الإنسان عن الحياة، فيكون بين يدي ربه ويمضي أهله في الدنيا يعمرونها ويدعون له بالرحمة وبالجنة.. أما السجن فهو يأكل العمر ويرشف الحياة ويُقتل السجين كل يوم.. يحمل معه الأهل هم الحيرة وعذاب الترقب وظلمة الأيام التي لا تنتهي.

يزيد من قسوة السجن أن تعلم أن لا أحد خارج هذه الأسوار يفعل شيئًا من أجل إخراج من بداخلها، ولا يملكون رؤية لذلك، بل الأسوأ أنهم استنكروا على كل من لوح بدعوة أو مبادرة تصب في هذا حتى نفد الوقت من بين أيديهم، كل هذا من أجل أن يظهروا للنظام أن المعتقلين ليسوا بنقطة الضعف ولا ورقة الضغط التي يقدموا من أجلها التنازلات.. ولكن هذا على عكس الحقيقة والأمر موجع ومؤلم فلا نكابر.

-عشرات الآلاف يتجرعون مرارة الأسر وخلفهم أضعاف هذه الأعداد من ذويهم يألمون.

– عشرات الآلاف لا يعلم أبناؤهم كيف يحبون هذا الوطن وقد أذلهم وكيف يعمرونه وقد خرب بيوتهم، وكيف يبنونه وقد هدم آمالهم.

– عشرات الآلاف ينتظرون إخوانهم يتحركون من أجلهم فإذا بالرؤية المستقبلية لا تتجاوز “انتظار الخصم من رصيد الخصم”.

– عشرات الآلاف تسعدهم أخبار انهيار الاقتصاد وارتفاع سعر الدولار وحوادث الطرق!، لأن هذا يُعد خصمًا من رصيد الخصم.

– عشرات الآلاف يربطون مصيرهم ومصير أبنائهم بغضبة مع دولة أو تكشيرة من دولة، وفي كل مرة يجتمع هؤلاء الخصوم عليهم ولكنهم لا يتعلمون.

رحم الله الإمام الشهيد حسن البنا، لو لم يكن مجددًا لما جابت دعوته الأفاق وتخطت الصعاب ونجحت في ربوع العالم، ولو لم تكونوا “هنا في مصر” جامدون متجمدون لما تعاقبت عليكم الإخفاقات وأصبحت متلازمة الدفاع الوحيدة: “اجتهدنا فأخطأنا”، وكأن هذا هو الأصل ولا يوجد في الإسلام: “اجتهدنا فأصبنا”.

ورحم الله الشيخ الغزالي، ما أحوجنا لمثله الآن.. آفة الإخوان في مصر هى عدم وجود مفكر بينهم، وكأن المفكرين والمجددين هم عين الآفة والبعد عنهم ونبذهم هو عين الثقة ومناط التوثيق.. في الوقت الذي تغلغلت فيه الوهابية والقطبية في الجماعة بقيادتها الحالية التي تربت في سجون عبد الناصر، على وجوب الانغلاق التنظيمي وجاهلية المجتمع، ثم أثقلتها بوهابية المملكة التي تلقفتهم لسنوات طويلة، فحادوا بدعوة الإمام المؤسس عن طبيعتها.

لست هنا بصدد تقييم فكري للإخوان في مصر، لكنني فقط أربط بين هذا الجمود وبين عشرات الآلاف الذين قتلت داخلهم معاني الحياة وعمارتها والحرية وقيمتها، بل كادوا يألفون الجدران الصامتة، والأبواب الحديدية، وطابور الحمَّام والنوم على “نمرة” صغيرة، والقرع على الأبواب كل ليلة من أجل مريض لا يجد من يسعفه، وإهانة الأهل أمام أطفالهم وتفتيشهم بطريقة مهينة وتركهم على أبواب السجن بالساعات من أجل زيارة قصيرة.. “والله إن الأمر موجع ومؤلم.. ولكنكم لا تشعرون”.

رحم الله الإمام البنا، لو كان حيًا لفعلها، لأخذ خطوة إلى الوراء وحافظ على الجماعة والوطن في آن واحد، ما كان ليفصل أحدهما عن الأخر، وقد فعلها في عهد الملك فاروق، وكان من أدبياته: “لسنا حزبًا سياسيًا وإن كانت السياسة جزءًا من فكرتنا”، فما كان للجزء أن يطغى على الكل كما فعلتم وتفعلون، ومازلتم تصرون على أن المعركة السياسية معركة صفرية، ففقدتم فيها الغالي والنفيس.. في الوقت الذي كان ينبغي فيه أن تكون معركتكم الأولى تربوية.. فهل فكرتم في هذا الشباب الذي يسقط كل يوم على صخرة الواقع المرير إذا فقد الثقة وانفرط عقده وضلت بوصلته وانهار أين ياتُرى يقف وماذا عساه أن يفعل؟

رحم الله الإمام البنا، لو كان حيًا لما رضي أن يكون عشرات الآلاف من أبناء دعوته ومن ناصروهم قابعين في السجون وهو لايملك رؤية لإخراجهم، ولما عرف طعم النوم حتى يجوب الدنيا كلها من أجلهم، ولاستنكر على إخوانه مكابرتهم وادعاءهم بأن هذا الجرح لا يؤلمهم.. ولاستنكر على من يطالبون بعودة الدكتور مرسي، التي أصبحت مستحيلة، ولتعامل مع الأمر الواقع بمسؤولية أكبر بعيدًا عن الشعارات الحنجورية التي أوردتنا هذا المآل.

لو كان حسن البنا حيًا لما استعلى على المبادرات التي تُطرح من أول يوم، ولما سارع برفضها واستنكارها، ولقرأها بعين الوطن الذي يتآكل والشباب الذي ينهار ولأمسك بطرف أحدها دون مكابرة أو استعلاء، وجعلها خيطًا لحل.. أو ومضة لطريق بدلًا من هذا السديم الذي لا يعلم مداه إلا الله.

أيها الإخوان المسلمون، استقيموا يرحمكم الله، عودوا خطوات للوراء إن لم يكن من أجل الوطن فمن أجل آلاف المعتقلين وأنا واحد منهم، وإن لم يكن من أجل المعتقلين جميعًا فمن أجل آلاف الشباب الذين وثقوا فيكم وهم ليسوا من الإخوان.. وقد اجتهدتم فأخطأتم ، وهم يدفعون ثمن أخطائكم سنوات عمرهم  التي تضيع.

أيها الإخوان المسلمون، اقرأوا عن حسن البنا قبل أن تحتفوا به.. فلو كان –رحمه الله- حيًا لفعلها.. ولكنكم تستكبرون.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها