“إبراهيم أبو ثريا” فارس بلا أقدام!

لله درك يا رجل في زمن قل فيه الرجال، أقمت الحجة على كل قاعد ومتخاذل، إقدامك رغم إعاقتك وَصَم بالعار كل متراجع ومتنازل، أرسلت للعالم بأسره رسالة احتجاج تلعن صمته ونكرانه.

بنبرة صوت مصممة واثقة وإرادة صلبة يلين أمامها الحديد ويذعن لها اليأس صاغراً مستلماً معترفاً أن لا قبل له بمقارعة صاحبها أو إثنائه عن هدفه قال “إبراهيم أبو ثريا” الشاب الفلسطيني الغزاوي ذو الـ29 عاماً “هذه الأرض لنا ولم ولن نستسلم، أنا هنا لإيصال رسالة للجيش الإسرائيلي أننا أصحاب الأرض، لن نستسلم لقرار الرئيس الأمريكي وسنواصل الاحتجاج على الحدود”، تشعرك كلماته أن هذا الشاب المبتور القدمين جيش وحده، فارس في زمن ترجل فيه الكثيرين وأصابهم اليأس، ولكن من رحم المعاناة يولد الصمود ومن باطن اليأس يخرج الأمل، وكم من مناضل بلا أقدام يستنهض أمة للوقوف على أقدامها والمثابرة والمطالبة بحقوقها والعمل والتجهيز لانتزاعها فما ضاع حق وراءه مطالب

 صبيحة يوم 27 من ديسمبر/كانون الأول 2008، قامت نحو ثمانين طائرة تابعة لسلاح الجو الصهيوني بعشرات الغارات الجوية على قطاع غزة خلال وقت قصير، استهدفت الأحياء ومقار ومراكز عسكرية وأمنية وشرطية تابعة لحركة المقاومة الإسلامية “حماس”، واستمر العدوان 23 يوماً وأسفر عن استشهاد 1500 فلسطيني، 926 مدنياً و412 طفلاً و111 امرأة، فيما فقد الآلاف بيوتهم إذ تشرد أكثر من تسعة آلاف شخص ودمر 34 مرفقا صحياً وانهارت 67 مدرسة ودمر 27 مسجداً، وغير ذلك من الخسائر في البنية التحتية، ورغم استعمال الاحتلال الصهيوني لأسلحة محرمة دولياً “اليورانيوم المنضب والأسلحة الفسفورية” فإنه فشل في تحقيق أهدافه، بل تعرض لخسائر كبيرة إذ قتل منه حوالي مئة شخص من بينهم 48 جندياً بحسب المقاومة، فضلاً عن إصابة أكثر من 400 شخص وحالة الرعب النفسي التي اجتاحت الاحتلال الصهيوني والمستوطنين، والخسائر المادية التي قدرتها بعض الدراسات بـ2.5 مليار دولار في معركة أطلقت عليها المقاومة الفلسطينية “معركة الفرقان“.

كان من بين المصابين شاب يبلغ من العمر 20 عاماً بترت قدماه في إحدى الغارات الصهيونية على القطاع، سبقته قدماه إلى الجنة وأبدله الله بهما همة صلبة لا تلين وروح ثائرة لا تستكين، فلم يترك فعالية ولا مظاهرة دفاعاً عن الأرض وتنديداً بالاحتلال الصهيوني الغاشم إلا وخرج فيها مثابراً صابراً منادياً “لبيك يا وطني”، وما إن أعلن “ترمب” عن قراره المشؤوم تجاه “القدس”، لم يتوانَ “أبو ثريا” عن الخروج يومياً على خط التماس والمواجهة المباشرة مع المحتل الصهيوني على حدود قطاع غزة، لم تثنه صعوبة الحركة، لم تقعده خطورة الوضع وشراسة العدو ووحشيته وانعدام إنسانيته، لم يؤخره بعد المسافة بين منزله والحدود، ولسان حاله يقول إن أنا فقدت قدماي ولم استطع الخروج راكضاً أو ماشياً فسأسعى حبواً لنصرة وطني والدفاع عن مقدساته والذود عن بني قومي وجلدتي.

لله درك يا رجل في زمن قل فيه الرجال، أقمت الحجة على كل قاعد ومتخاذل، إقدامك رغم إعاقتك وَصَم بالعار كل متراجع ومتنازل، أرسلت للعالم بأسره رسالة احتجاج تلعن صمته ونكرانه لحقوق الشعب الفلسطيني في حريته وإقامة دولته على أرضه ميراث أجداده، صرخاتك الهادرة وروحك الثائرة شقت جدار الصمت وبرهنت على أن الشعب الفلسطيني لا يتراجع أو يتنازل عن أرضه، شرفه، عرضه، قضيته مهما تكالبت عليه الأعداء وأحاطت به المؤامرات وخذله الجبناء وعجز عن نصرته البعض من بني جلدته من العرب، من لم يستطيعوا أن يستقلوا طائراتهم المرفهة لحضور قمة”القدس” في تركيا والجهر بكلمة حق وهي أضعف الإيمان وفضلوا البقاء في ركب السيد الأبيض وحليفه الصهيوني وحسناً فعلوا فنحن في أيام كاشفة، أظهرت النوايا وكشفت الخبايا ولم يعد هناك من يستطيع أن يستمر في استغلال معاناة الشعب الفلسطيني لتنفيذ مآربه والوصول لأهدافه وإرضاء حلفائه.

الكفاح الفلسطيني يقدم لنا الدرس تلو الدرس والأيقونة وراء الأيقونة، بما يشبه أشعة الشمس التي تكسر وتهزم حلكة الظلام وتجبره على التراجع معلنةً بزوغ فجر يتجدد لشعب مقاوم عنيد كلما ظن العالم أنه قد استكان وهدأ فإذا هو نار تحت الرماد جذوتها مشتعلة، ما إن يحين الوقت حتى يحرق لهيبها كل أوهام المحتل في فرض إرادته وهيمنته ويحرق معها كل أحلام حلفائه في المنطقة المنبطحين تحت الطاولة، المختبئين في عباءة “ترمب” التي سقطت وأسقطت وبلا رجعة كل الأقنعة وكشفت بصورة قاطعة كل مخططات التآمر لتصفية القضية الفلسطينية في مئوية وعد”بلفور” المشؤوم، قرن من التآمر والخسة والدناءة لمحتل صهيوني غاشم أرادوا ختامه بما يسمى “صفقة القرن، التي أرعبتها وفضحتها وأسقطتها صرخات “إبراهيم أبو ثريا” بأن هذه أرضنا وهذا وطننا وتلك قضيتنا التي نبذل الغالي والنفيس من أجل نصرتها، تلك الصرخات التي يبدو أن المحتل الصهيوني لم يحتملها وأصابته بالهلع والرعب فأطلق رصاصه الغادر على رأس الشهيد لتصعد روحه إلى بارئها معلنةً عن استمرار انتفاضة شعب الجبارين والمرابطين الذي لا يقهر.

ليتزامن استشهاده مع الذكرى الـ30 لانطلاقة حركة المقاومة الإسلامية “حماس” التي تأسست على يد الشيخ الشهيد”أحمد ياسين” القعيد على كرسي متحرك، والذي استشهد هو أيضاً بصاروخ صهيوني غادر، وكأن القدر يحاول إخبارنا أن هذا الشعب المجاهد الذي  تآمر عليه القاصي والداني، القريب والبعيد، لا ولم ولن يثنيه ولا يقعده شيء عن المطالبة بحقوقه ومقاومة عدوه وتحرير أرضه ورافع راية دولته المستقلة على أسوار “القدس” عاصمة فلسطين الأبدية، ومن البحر إلى النهر “فلسطين التاريخية”، وهو وعد حق سنصل إليه وسيتحقق يوماً ما دام بيننا فرسان ورجال مثل الشهيد “إبراهيم أبو ثريارحمة الله عليه، فلترقد في سلام أيها البطل المغوار الأشم فقد قدمت درساً وعظة أن الفرسان والمجاهدين أحياناً يكونوا بلا أقدام.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها