لا تتزوج إلا إذا نضجت

هذا جناه أبي عليَّ وما جنيت على أحد”، هذه العبارة الشهيرة هي للشاعر الكفيف أبي العلاء المعري، الذي أوصى بأن تكتب على شاهد قبره؛ ليقرأها كل مَن مرَّ بجانبها، ويقال إنه أراد بها أن أباه جنى عليه حين أنجبه، بينما لم يجنِ هو على أحد كونه لم ينجِب؛ لعلمه أن الأبوّة مسؤولية وحق لا يمتلكه أي شخص، ولعل المعري ليس الوحيد الذي أحسَّ أن قدومه إلى هذه الحياة هو جناية ارتكبها أبوان ليسا أهلاً لذلك، بل كثر قبله وبعده أحسّوا بذلك، ولعلي لا أبالغ إن قلت إن أكثرهم هم بيننا اليوم وفي عالمنا الثالث هذا.

وهم الذين يجنون دون أن يشعروا، ويهدمون وهم يظنون أنهم يبنون، وأشكال الجناية في عالمنا العربي كثيرة، وأولها وأهمها –في رأيي- الفهم الخاطئ للآباء والأمهات للأبوة والأمومة، الذي يعقبه فهم خاطئ لمهامهم والمسؤوليات الملقاة على عاتقهم، وحصرها في إطعام أبنائهم وشرابهم وكسوتهم، وغير ذلك من الحاجات البسيطة التي تصنف كحاجات دنيا في هرم “ماسلو”، وهي حاجات بديهية وطبيعية يتكفل بها الله والطبيعة، ودليل ذلك ما أورده ربنا -جل وعلا- في القرآن الكريم، أثناء ردّه على الذين يئدون أولادهم خشية قلة الرزق، وعدم القدرة على إعالتهم، فقال الله -سبحانه وتعالى- لهم: (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ).

ونلاحظ أن رزق الأبناء في هذه الآية مقدَّم صراحةً على رزق آبائهم ، أي أن الآية تقول لك وبشكل واضح: أيها الوالد، إن الرزق وما يتعلق به هو أمر ليس من اختصاصك، فلا تشغل نفسك به، ودليل آخر على أن الرزق ليس مهمتك، حثّ النبي -صلى الله عليه وسلم- المسلمين الحقيقيين آنذاك على التكاثر رغم ضعف الحال وضيقه في زمانهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (تزوجوا الولود الودود)، وقال أيضاً: (تكاثروا فإني مفاخر بكم الأمم يوم القيامة)، في إشارة منه إلى أن الرزق أمر مقسوم، وليس هناك داعٍ للإسراف بالانشغال به أو المبالغة في الخوف من قلَّته.

وهذا التفكير القاصر والفهم الخاطئ لدور الوالد لدى كثير من الآباء، وحتى لدى الشباب المقدم على الزواج يجعل الشاب يظن أنه ما إن تمكن من الإعالة فذلك يعني جاهزيته إلى أن يكون أباً حتى وإن كان لم يبلغ من النضج أو الوعي، أو أن يملك من مهارات إدارة العائلة ما يؤهله لذلك، فيحصر اهتمامه بأبنائه بهذا الموضوع، وربما يسافر ويغيب عنهم فترات طويلة، لهذا الغرض بالتحديد، مهملاً المواضيع الأخرى الأكثر أهمية، التي أهمها على الإطلاق بناؤهم وإعدادهم كي يكونوا شيئاً، أو يفعلوا شيئاً في المستقبل، ويتركوا بصمة في هذا العالم الذي أصبح إثبات الوجود فيه أمراً غاية في الصعوبة.

فيبدأ الابن الضائع في معمعة الحياة، وغير المدرك لما سيفعله بالنقمة على والديه، كالمعري تماماً، وربما يصل به الأمر مثله إلى لومهما أنهما أتيا به إلى هذه الحياة المرعبة، ثم لم يسلّحاه بالأسلحة التي تمكنه من العيش فيها، وتحقيق ذاته، أو حتى الدفاع عن نفسه في أحيان كثيرة. ومن الجنايات العظيمة في حق الأبناء أيضاً في مجتمعاتنا المبالغة في قضاء حوائج الأبناء عنهم؛ لينشأ الشاب وهو شبه عاجز عن تحمل أي مسؤولية مهما كانت تلك المسؤولية بسيطة، وكذلك تكسير أجنحتهم وإحاطتهم بمشاعر الإحباط دوماً بدل التشجيع والإطراء، والأهم من ذلك كله قتل المواهب الموجودة أصلاً فيهم وملأهم بأمراض الشرق وعقده.

برنامج كأكاديمية صنع القادة يجب علينا ألا ننتظره من الدكتور طارق السويدان -جزاه الله عنا خيراً- أو غيره، بل يتوجب على كل الآباء إنشاء أكاديميات لصنع القادة خاصة بهم في منازلهم، كما كانت تفعل الأمهات والآباء العظام، والأمثلة لهم كثيرة، وربما الأمثلة على الأمهات العظيمات أكثر، فالأم هي الجزء الأهم في حياة ابنها منذ ولادته.

ومن الأمهات العظيمات والدة السلطان العثماني العظيم محمد الفاتح، التي قيل عنها إنها أُم صنعت أمة، والتي كانت كل يوم بعد صلاة الفجر تصطحب ابنها إلى ﻣﺸﺎيخ قريتهم وتشير له بيدها إلى القسطنطينية وﻫﻲ ﺗﻘﻮل ﻟﻪ: “ﻳﺎ ﻣﺤﻤﺪ، ﻫﺬﻩ اﻟﻘﺴﻄﻨﻄﻴﻨﻴﺔ وﻗﺪ ﺑﺸﺮ اﻟﻨﺒﻲ – ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ وﺳﻠﻢ- ﺑﻔﺘﺤﻬﺎ ﻋﻠﻰ أﻳﺪي اﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ أﺳﺄل اﻟﻠﻪ اﻟﻌﻠﻲ اﻟﻘﺪﻳﺮ أن ﻳﻜﻮن ﻫﺬا اﻟﻔﺘﺢ ﻋﻠﻰ ﻳﺪﻳﻚ.. وﻳﻜﺒﺮ اﻟﻐﻼم وﺗﻜﺒﺮ ﻣﻌﻪ ﻫﺬﻩ اﻷﻣﻨﻴﺔ ﺣﺘﻰ ﻳﺼﺒﺢ ﻣﺤﻤﺪ ﻗﺎﺋﺪاً ﻣﻦ ﻗﻮاد اﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ ويفتح القسطنطينية، كما بشر النبي صلى الله عليه وسلم، وكما أرادت له أمه”.

ويقال أيضاً إن أم اﻟﻤﻬﺎﺗﻤﺎ ﻏﺎﻧﺪي ﻛﺎﻧﺖ كل صباح ﺗﺘﻘﺪم إﻟﻰ ﻛﻞ واﺣﺪ ﻣﻦ أﺑﻨﺎﺋﻬﺎ وﺗﻘﺒﻞ ﺟﺒﻬﺘﻪ وﺗﻠﻘﻨﻪ أن ﻳﺮدد ﻃﻴﻠﺔ اﻟﻨﻬﺎر ﺑﻴﻨﻪ وﺑﻴﻦ ﻧﻔﺴﻪ ﻫﺬﻩ اﻟﻜﻠﻤﺎت: أﻧﺎ ﺣﺮٌ! أﻧﺎ ﺷﺠﺎع! ﺳﺎﻗﻮل اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ داﺋﻤﺎً! ﻫﻜﺬا ﻳﺎ أﺑﻨﺎئي ﺗﺘﻌﻠﻤﻮن اﻟﺴﻴﻄﺮة ﻋﻠﻰ ذواﺗﻜﻢ، وهذه الأفكار التي غرستها في غاندي هي ما جعلته فيما بعد محرر الهند العظيم.

أﻣﺎ ﻣﺎري والدة توماس أدﻳﺴﻮن، ذات القصة المعروفة مع ولدها ذي التصرفات الغريبة وكثير الأسئلة والخمول، الذي طُرد من مدرسته ليجد مدرسة أعظم تديرها أم عظيمة جعلته ينير العالم فيما بعد.

أيها الوالد.. راجع تصرفاتك، وأنتِ أيتها الوالدة، فإن اكتشفتما أنكما لستما أهلاً لإعداد أبنائكما فلا عيب في رأيي أن تهباه لغيركما كمعلم أو مربّ، وذلك خير من أن تهدماه وتحملا إثمه وربما هو مشروع قائد أو عالم أو فاتح تفشلانه أو ذي موهبة تئدانها دون علم منكما، هذا واهتما كثيراً بالسنوات الأولى من حياته فهي ما سيحدد كيانه إلى الأبد.

وأنتما أيها الشاب والفتاة المقدمان على الزواج تحسسا عظم ما أنتما مقدمان عليه، وخاصة الفتيات، فإن لم تستطيعي أن تكوني مدرسة كماري أديسون أو أماً كأم محمد الفاتح، فالأفضل هو البقاء عند أهلك حتى تتدربي وتصبحي يوماً قادرة وماهرة في أداء تلك المهمة العظيمة.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها