أسباب انتصار القلة المستضعفة

شاءت إرادة العزيز الحكيم أن يكون النصر حليفًا لمن حققوا أسبابه والتزموا بقواعده، وحازوا مقوماته، وإن كانوا أقل عددًا، وأضعف عتادًا.

سجلت أحداث التاريخ عدة انتصارات للمسلمين -وهم قلة مستضعفة من ناحية العدد والعتاد- على جيوش الباطل وتحالفات المعتدين على حرية الاعتقاد، المناهضين لمكارم الأخلاق، المشمئزين من قيم العدل والمساواة. وكان من أعظم هذه الانتصارات وأشهرها غزوة بدر الكبرى(رمضان 2هـ). يقول القرآن الكريم عن جندها: “وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ” (آل عمران 123). قال المفسرون: “أذلة” يعني: قلة، فقد كان العدو المحارب لهم يمثل أضعافهم من حيث العدد والاستعدادات؛ وبرغم ذلك نال المسلمون انتصارًا تاريخياً في يوم مشهود سُمي بـ(الفرقان) لأنه ميّز معسكر الحق وأتباعه بالانتصار على معسكر الباطل وأعوانه. وفي غزوة الأحزاب(شوال 5هـ) جاءت قريش وغطفان بحدها وحديدها في قرابة 10 آلاف مقاتل، يمثلون أكبر تحالف -يومها- ضد الفئة المؤمنة التي تعمل على نشر الحق وإقامة العدل بين الناس، يعاونهم فلول يهود بني النضير مع مساندة يهود بني قريظة داخل المدينة، هذا بالإضافة إلى تحركات المنافقين القابعين داخل المجتمع الإسلامي، يصف القرآن ذلك بقوله تعالى: “إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا” (الأحزاب10). وكانت المفاجأة الكبرى أن هذه القلة التي بلغت قلوبها الحناجر -فزعًا من هول ما أحاط بهم- تنتصر انتصارًا شاملًا على كل الجبهات المتآمرة من مشركي مكة ويهود قريظة والمنافقين المندسين داخل المجتمع النبوي. يقول تعالى: “وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا  وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزً” (الأحزاب 24). ويكاد المؤرخون يجمعون على أن جميع غزوات المسلمين وحروبهم في مواجهة البغي والعدوان اتسمت بعامل مشترك هو قلة العدد وضعف العدة في معسكر أصحاب الحق، حتى غزوة حنين(شوال 8هـ) التي افتخر المسلمون فيها بكثرتهم لم يكن عددهم فيها إلا ثلث عدد محاربيهم، وبرغم ذلك –أيضًا- لم تحقق لهم هذه الكثرة التي أُعجبوا بها النصر الموعود، إنما شاءت إرادة الله أن يتم نصره بعدد لم يتجاوز المائة من الصحابة الكرام الذين أحاطوا بالنبي (صلى الله عليه وسلم) بعد فرار الألوف المفتخرة بعددها؛ وفي هذا بيان واضح أن الكثرة في العدد لا تصنع النصر، وأن القوة المادية لا تؤهل لنيل العزة والرفعة وتحقيق الفلاح. وذلك لعدة أسباب منها ما يأتي:

–     مالك قرار النصر الأوحد في جميع المواجهات وفي كل الساحات هو الله تعالى. يقول سبحانه: “وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ” (الأنفال 26). ونلحظ أن هذا الحقيقة الربانية في هذه الآية جاءت بعد الحديث عن إمداد الله المؤمنين بالملائكة في غزوة بدر، ليلغي ظن من يتوقع أن هذا النصر الكبير في هذه الغزوة المباركة كان بسبب قوة الملائكة الخارقة، وليؤكد على أنه كان بإرادة الله (العزيز) أي الذي ينصر بإرادته من يريد، (الحكيم) أي الذي يعطي النصر لمن يستحق.

–     شاءت إرادة العزيز الحكيم أن يكون النصر حليفًا لمن حققوا أسبابه والتزموا بقواعده، وحازوا مقوماته، وإن كانوا أقل عددًا، وأضعف عتادًا. من هذه المقومات ما ورد في سورة الأنفال التي يتحدث جُلّها عن نصر القلة في بدر على جحافل الباطل. يقول تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ“(45-47). ففي الآيات الكريمة ستة مقومات صريحة للفلاح والانتصار عند مواجهة الفئات المعادية للحق المضطهدة لأهله، ونلحظ أن الآيات لا تقصر المواجهة في صورة واحدة أو على جبهة معينة، إنما جاءت عامة لتشمل جميع المواجهات (السياسية، الفكرية، الاقتصادية، العسكرية…) التي يشنها أهل الباطل في أي  زمان أو مكان بهدف إبادة الطرف الآخر ومحوه من الوجود بكل الوسائل والسبل.

ومن خلال هذا المقال نحاول أن نتعرف على هذه الأسباب الحقيقية وراء انتصار أصحاب الحق القليل في العدد أمام الكثرة الضالة؛ وذلك حتى تعلم الأمة الناهضة من أجل دينها وعقيدتها، والثائرة في وجه الطغيان والانحلال أنه لا سبيل لنصرها المنتظر إلا من خلال أن تسلك الطريق الذي رسمه صاحب قرار النصر الأوحد(الله) في الآيات السالف ذكرها. وبيانها كالآتي:

أولاً: (الثبات)، بمعنى التمسك بالمبدأ، والإصرار على الحق، وعدم التنازل، أو التراجع، أو التردد تحت الضغوط بمختلف أشكالها أو أمام القوة العاتية بتعدد وسائلها. ولقد كان يوم بدر أصدق مثال على هذا النوع من الثبات، فقد فُوجئ المسلمون القليلون المستضعفون بزحف من الكبر والغطرسة يقودهم فرعون هذه الأمة، من أجل القضاء على المجتمع الوليد بالمدينة وإطفاء نور الله المبين، فكان قراراهم التاريخي: “امض يا رسول الله لما أردت، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد” (رواه الطبراني). ولكن في يوم الخندق كان ثباتهم هو الأعجب والأروع؛ عندما واجهتهم عصابات الغرور والشرور من أجل ضربة أخيرة قاضية، فلم يتقهقروا، ولم يتنازلوا، ولم يفاوضوا، ولم يبدلوا؛ يقول تعالى: “مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا” (الأحزاب 23). بهذا الثبات الفريد قويت عزائمهم، وارتفعت معنوياتهم، وسمت أهدافهم فتحولوا –برغم قلة العدد- إلى أسودٍ زائرة، وسيولٍ هادرة، تهد صفوف الأعداء هدًا، وتضج مضاجع المعتدين ضجًا، وتفتك بالظالمين فتكًا. ولعل وضوح سبب الثبات في رسم معادلة النصر هنا يفسر لنا بعضًا من أسباب الهزائم المتعاقبة في منطقتنا العربية والإسلامية اليوم، وبخاصة عندما نرى كثيرًا من المثقفين والمفكرين والسياسيين والإعلاميين والشرعيين والإسلاميين… يتلونون بألوان الطيف أمام المغريات أو العقبات، ويتحولون وفق التيار بين عشية وضحاها، مما تسبب في إضاعة كثير من المبادئ، بل وبيع كثير من الأوطان إما رهبة من البطش والطغيان، أو رغبة في الكرسي والانتقام. ولكن في المقابل ما زال هناك نور يسطع، وبريق يتألق، وقوة تتشكل بين رجال صامدين لم تفتنهم المغريات، ولم تَفُت من عزائمهم الاضطهادات، فلم ينحرفوا عن المبادئ والقيم، ولم ينحنوا أمام العواصف والمحن، أولئك هم أمل الأمة وطليعة النصر المنتظر، وإن كانوا قليلين مستضعفين.

(ثانيًا: ذِكْرُ الله كثيرًا)، ويأتي في مقدمته ذكر اللسان بكل أنواع الأوراد المشروعة، ويدخل فيه أيضًا ذكر القلوب بالإخلاص والخشوع، وكذلك الجوارح بالتزام أوامر الله والبُعد عن نواهيه. وفي بدر رأينا الرسول (صلى الله عليه وسلم) واقفًا بالليل يدعو ربه، ويتبتل إليه حتى أشفق عليه أصحابه. يقول له أبو بكر: “كفاك مناشدتك ربك، فإن الله منجزٌ لك ما وعدك” (رواه ابن إسحاق). وهذا أيضًا ما فهمه القائد المغوار صلاح الدين الأيوبي عندما قال لجنوده في حطين (ربيع الثاني583): “من هنا يأتي النصر” وذلك عندما مرّ بالليل على خيمة بِها عددٌ من الجند يقرَءون كتاب الله ويَقُومون الليل. فماذا عن حال الأمة المنكسرة في هذا العصر وهي تئن أمام المحن المحدقة بها؟ للأسف، قد وقع كثير من أبنائها ضحية لفئات الفساد والطغيان التي تعمل بالليل والنهار لصرف الناس عن ذكر الله وإلهائهم بالفواحش والموبقات، وعجيب الأمر أن بعضًا من أفراد هذه الأمة المقهورة –رغبة أو رهبة- يقضون ليلهم ونهارهم مسبحين بحمد الطغاة المعتدين، متزلفين بالأوقات والقربات لنيل شهرة أو شهوة. ولكن في وسط هذه العتمة الحالكة والغفلة السائدة ما زال هناك جيل يواجه العسرات والعقبات بأزيز المسبحين وأكف المتضرعين، ودموع الخاشعين في أوقات السَّحَرِ وحين البأس، أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المنتصرون إن شاء الله.

(ثالثًا: طاعة الله ورسوله)، هذه هي المرجعية العليا التي لا بديل عنها في عقيدة أتباع الحق، وأصل تحققها يكون في المَكْرَهِ والعُسْرِ كما في المَنْشَطِ واليُسْرِ، فهي دليل الإيمان الخالص وعلامة الانتماء الصادق، وبتحقق هذه الطاعة كاملة غير منقوصة يستلهم المسلم نصر الله ومعيته. يقول تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ” (محمد 7). قال العلماء: نصرة الله تكون بتقديم أوامره وطاعة رسوله. ولا أدل على أهمية هذا المقوم في تحقيق النصر على الكثرة المعتدية من حدث غزوة أحد (شوال3هـ)، فقد انقلب نصرهم في بداية المعركة إلى هزيمة شنيعة، وتحولت الفرحة إلى مصيبة كبيرة بسبب معصية الرسول (صلى الله عليه وسلم) ومخالفة مجموعة الرماة لأمر واحد من أوامره. فماذا عن هزيمة الأمة المعاصرة وهي تشهد جرأة غير مسبوقة على الله ورسوله، تارة بدعوات الإلحاد التي تنكر أحقية الله بالأمر كله، وتارة بالعلمانية التي تجزئ أوامر الله ورسوله بإلغاء بعضها أو كلها، أو بحملات النفاق التي تُزَيِّنُ المعاصي والسيئات وتُشَيْطِنُ العِفَّةَ ومكارم الأخلاق، ولكنّ إصرار كثير من أبناء الأمة على رفع رؤوسهم بعزة الطاعة لله ورسوله أمام جيوش التحلل والانحراف، وبعزيمة القيام بالدعوة إلى طاعة الله ورسوله بياناً وتطبيقًا، يبعث في الأمة الأمل، ويبشر بأنها إلى نصر قريب إن شاء الله.

(رابعًا: عدم الاختلاف المؤدي إلى التنازع)؛ وذلك بالاتحاد حول الغاية الكبرى، والعمل بمنظومة التفاهم والتشاور، وإبداء الرأي والنصيحة، ثم النزول على رأي الأغلبية، مع سلامة الصدور ونقاء القلوب. لقد كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) في جميع غزواته أحرص ما يكون على تجميع القلوب وتقوية أواصر الإخاء باحترام  العقول، وإعمال الشورى، والنزول على رأي الأكثرية؛ فذلك مما يحفظ من الاختلاف والتنازع الذي يؤدي إلى الفشل وتفتيت القوى. لقد كان مُصاب المسلمين الفادح في أحد بسبب اختلافهم وتنازعهم في الأمر البين درسًا قاسيًا حفظ الأمة في مواطن كثيرة من تكراره على مدار التاريخ. يقول تعالى: ” وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ” (آل عمران 152). ما أحوج الأمة اليوم إلى أن تلم شعثها، وأن توحد صفها، وأن تنسى خلافاتها الهدامة، وأن تمحو آثار الفرقة التي دسها الكائدون الماكرون الذين يعملون على تمزيق مكونات الأمة، وإشاعة الضغينة بين جنباتها، لِيَفُتُّوا من عَضُدِها، ويستنزفوا قدراتها، ويقودوها لحتفها. ولكن برغم اتساع دوائر الاختلافات، وشِدَّة آلام الافتراق، ما زال المخلصون من أبناء الأمة؛ ينادون بجمع الشمل، وتقوية الصف، وتوحيد الهدف، والتسامح والتغافر، ومع ازدياد الاستجابة لهذه النداءات وصحوة الشعوب للمكائد التي تفت في بنيانها، نرى بوادر النصر الموعود شيئًا فشيئا إن شاء الله.

(خامسًا: الصبر). هو قوة التحمل الخارقة، التي تشد العزم، وتيسر الصعب، وتقرِّب البعيد، وتحقق الرجاء، وتُيأس الأعداء، به يتضاعف عدد القلة، وبدونه تتفتت الكثرة. يقول تعالى: “إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين.” (الأنفال:65). ولقد كان الصبر هو السلاح الذي لا يقهر على مدار تاريخ المصلحين قديما وحديثًا. يقول تعالى:” وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ” (آل عمران 146). إن مما يُحزن القلب في هذه الأيام من تاريخ الأمة سماع أصوات الضَّجَر، وصيحات التملمُل، وعبارات الجزع وفقدان الأمل، مما يصيب البعض باليأس والقعود، ولكن سرعان ما تهب رياح الصبر الجميل من خلال صمود أمهات الشهداء وزوجات المأسورين، وتضحيات المشردين واللاجئين، وإصرار الشباب والفتيات على مواصلة الصَّدْعِ بالحق وتقديم التضحيات في الميادين وعبر وسائل التواصل… ولسان حال الجميع يتواصى (إنما النصرُ صبرُ ساعة).

(سادسًا: البعد عن الرياء والعُجْبِ). فهما طريق العثرات ومنبع الأزمات، بهما تُشتت الجهود، وتنقلب عظائم الأمور إلى سفاسف. والمؤمن بطبيعته لا يفتعل المواجهات، ولا يواجه من أجل إبراز العضلات، ولا يستدعي الأشرار المتربصين، إنما دائماً يسأل الله العفو والعافية، وإذا ما قُدِّرَ له ملاقاة فئة من الأشرار فهو يستعين بضعفه وتواضعه وذله أمام ربه لينال دعمه ورعايته. يصف القرآن الانكسار السامي للمؤمنين بين يدي الله عند لقاء عدوهم وما أعقبه من معية الله ونصره في قوله تعالى: “وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ” (آل عمران 147،148). لقد أثبتت تجارب العصر في محنه المتلاحقة أن بناء الأمم، وتحقيق الإنجازات، ونيل الانتصارات لا يكون بحب الظهور عبر شاشات الإعلام أو بتزييف الحقائق ونسبة إنجازات الغير إلى النفس، أو بالتعالي زورًا وبهتانًا. لابد أن تتعلم الأمة أن أقرب طريق لبناء مجدها ولظهورها على الأمم في مواجهاتها المتتالية هو إخلاص الوجه لله والعمل لنيل رضاه والخضوع بين يديه والاستسلام لعظمته.

وبعد حديث سورة الأنفال عن هذه المقومات الستة في انتصار القلة المؤمنة، نجدها تنتقل إلى مرحلة الإعداد المادي الذي يكفي فيه -مع توفر مقومات النصر التي أشرنا إليها-أن تبذل الأمة ما في وسعها واستطاعتها؛ ذلك أنه لا تُهْزَمُ أمة من ضعف في القوة أو قِلَّةٍ في العدد ما تحلى أفرادها بمقومات النصر وأخذوا ما استطاعوا من أسباب المادة، كما أنها لا تنتصر بعدد ولا عتاد إذا فرَّط أفرادها في عوامل النصر ولم يتأهلوا بها. يقول تعالى: “وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ…” (الأنفال:60).

ويجب التأكيد في الختام أن حديث المقال كان عن النصر وليس الغلبة، إذ أن إنجاز هذه الأخيرة يكون لمن امتلك القوة المادية بعيدًا عن ميدان الإيمان، وهي صولات وجولات للأكثر عددً والأقوى بطشًا، أما النصر المنشود فلا سبيل إليه إلا من خلال مقومات قرآنيةٍ مُؤسسةٍ على قاعدة الإيمان. يقول تعالى: “وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ” (الروم 4،5).

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها