عالقون في ساموس

 

تبدو جزيرة ساموس من نافذة الطائرة كبقعة خضراء وسط زرقة بحر الإغريق، تبدو رمال شواطئها من السماء، تلمع مياهها وتنكشف بناياتها الصغيرة كلما اقتربت الطائرة من الأرض، أغلب الراكبين من السياح الأجانب، تنتظرهم الجزيرة بشوق لإعادة تحريك محركها الاقتصادي الأقوى، السياحة.

يعيش قطاع السياحة في ساموس تراجعا كبيرا وسريعا بسبب أزمة اللاجئين، وأزمة اللاجئين هي ما جعلني أركب هذه الطائرة.

وبالفعل، عدد سيارات الأجرة خارج المطار أكبر من عدد الوافدين، ركبت في إحداها، وبعد تبادل التحية مع السائق سألني مباشرة، هل أنت متطوع قادم لمخيم اللاجئين؟ وكأنه متأكد أن جزيرته تجذب المتطوعين أكثر من السياح. نصحني بعضهم أن لا أخبر أحدا في الجزيرة بهويتي الإعلامية ونشاطي الصحفي، فالمدينة صغيرة والخبر ينتقل داخلها بسرعة وقد يؤثر ذلك على المهمة التي أتيت لأجلها. لا، لست متطوعا، أنا سائح قادم من فرنسا وأتجول بين الجزر اليونانية، هكذا أجبته، ثم أضفت، هل يأتي المتطوعون إلى هنا بسبب اللاجئين؟

فأجابني، نعم، يأتي بعضهم من حين لآخر، نعيش أزمة كبيرة هنا، عدد اللاجئين في ازدياد مستمر والجزيرة تختنق.

قلب الجزيرة:

أخبرت أحمد بوصولي إلى قلب الجزيرة، وهو أحد اللاجئين والنشطاء داخل المخيم، حدثتني عنه ناشطة مصرية، فكنا نتابع صفحته على توتير وانستغرام وأعجبنا بنصوصه وصوره من المخيم، ثم قررت التواصل وترتيب المهمة معه. سرعان ما تقابلنا، وأكد لي أن السلطات المحلية جد صارمة مع الإعلام ولا تسمح للصحفيين بالتجول بحرية داخل المخيم، فاتفقنا إذن على الدخول سوية دون كاميرا ودون بطاقة صحفية أو اعتماد، دخلت رفقته كأي لاجئ أمام أعين الشرطة وبهاتف سامسونغ الذي سيقوم بدور كاميرا قناة الجزيرة مباشر.

لم تتأخر صدمتي كثيرا، فبعد عشرات الأمتار من المشي بدأت أبشع مشاهد المخيم تنكشف أمامي، انتقلت من الجو السياحي الممتع إلى جو القهر في أقل من ربع ساعة. اكتشفت أولا أن المخيم لا يوجد على أرض مسطحة بل في أعلى تلة، وسط الأشجار والوحل. كثرة الخيام تحجب الطريق والممرات لكن رفيقي في الرحلة يعرفها شبرًا شبرًا، وقفنا في مكان مرتفع فشعرت بنظراته اتجاهي يستشعر منها حجم صدمتي.

وسط الوحل، أرى طفلا في الرابعة من عمره يحفر في الأرض، وعلى أمتار منه ألمح سيدة عجوزا بملامح التعب تحدق في وكأنها كشفت أمري، ثم على يساري مجموعة من الشباب يحاولون إشعال النار بالحطب الجاف، ثم يمر أمامي طفل وهو يحمل قنينتين من الماء، تبادلنا نظرات طويلة، ابتعد وهو يحمل الماء إلى خيمته بيديه الصغيرتين، كل هذا وسط الغبار والوحل وبكاء الأطفال من جهة ونظرات التعب والإحباط من كل الجهات. نظر إليّ أحمد مبتسما ومواسيا رغم أنني مجرد زائر، وكأنه يرحم ضعف عجزي بقوة صبره. أحمد أصغر مني سنا، يتقن اللغة الإنجليزية وبليغ بالعربية، يكتب الشعر ويحفظ الكثير من دواوين الشعراء، يدندن بها صباح مساء، شاب وسيم لا تفارق وجهه الابتسامة.

شعرت بحرج شديد وأنا أخرج الهاتف لأطلب من أحمد أن يبدأ التصوير، أخذه مني متحمسا ثم بدأنا تغطيتنا.

خفت أن ينزعج المقيمون في المخيم من وجودي بينهم، لم لا وهم يعانون منذ شهور وسط صمت إعلامي وعالمي وحقوقي، فيرونني فجأة أتجول بينهم ثم أختفي بعدها في بيتي الدافئ بعيدا عن معاناتهم. لو كنت مكانهم لربما لعنت كل مار وعابر. لكنهم لحسن الحظ، ليسوا مثلي إطلاقا، بل العكس تماما.

خيمة الشباب:

يستقبلني الجميع بابتسامة، بل ويدعوني كل واحد منهم لشاي وقهوة، وكلما سمع أحدهم أنني سأقيم معهم الليل يدعوني لتناول العشاء معه. سمعت عن خيمة صغيرة يجلس فيها الشباب لتناول القهوة وتبادل أطراف الحديث، التحقت بها فدخلتها بترحيب تلقائي وعفوي. المكلف بتحضير القهوة هو محمد، شاب سوري بشوش وخفيف الظل، أخبرني بأن حلمه هو افتتاح مقهى في أوروبا، في آثينا أو باريس، بجانبه عبد الله، لا يحلم بمقهى، يقول مازحا أن حلمه هو أن يتزوج بفتاة جميلة.

رغم المعاناة الشديدة داخل المخيم، أغلب اللاجئين مازالوا متشبثين بروح الدعابة، قد يبدو للقارئ أن الدعابة شيء سهل في هذا المكان، لكن لو علم أن في هذا المخيم لا يوجد حمام أو صنبور ماء أو مصدر للكهرباء ولا يوجد مصباح واحد أو بناية ولو خشبية تحفظ من البرد أو المطر، تصور نفسك وسط هذه الظروف، هل ستتذكر الدعابة؟

في ساموس، التفكير في الاستحمام يتطلب إجراءات كثيرة، يجب النزول من التلة لأخذ موعد لذلك ثم الصعود، ثم النزول مرة أخرى للاستحمام ثم الصعود. أبسط الأشياء في ساموس تتطلب مجهودا نفسيا وجسديا كبيرا وتفكيرا وتخطيطا. تريد تنظيف ملابسك؟ تحتاج لتصريح من الشرطة، تحتاج لشحن هاتفك؟ يجب أن تنتظر لساعات أمام مقر جمعية، أما بالنسبة للطبيب، فمن الأفضل أن لا تحتاج لرؤيته، لأنك في الغالب لن تراه، ستكون مثل سيدة سورية تنتظر موعدا قادما مع الطبيب بعد ستة أشهر، المشكلة هي أنها حامل في شهرها السابع، أي أنها ستذهب للطبيب بمولودها. كيف ستلد؟ الله أعلم.

غير بعيد عن خيمة الشابة السورية الحامل، تنتظر سيدة أخرى مسنة رؤية الطبيب لأنها تعاني من ألم شديد في الظهر والمفاصل، تتمشى ببطء بين المسالك الوعرة. كل قصة في المخيم تنسيك الأخرى، ليس بالانبهار، بل بالحزن والهوان.

وبعد الغروب، يأتي الليل بوحشيته، ظلام دامس وبرد شديد، يلتف اللاجئون حول النار بشكل بدائي، وكأننا لسنا في عالم عصري، بل وكأننا في زمن بدائي، تعتبر فيه النار آخر وأحسن وسائل الراحة. أجلس وسط محمد وابنه محمود، وبجانبه عبد الله وإخوته، رفيقي أحمد يلقي الشعر والجميع ينصت، في هدوء، بتعب، بإرهاق، وفِي أعينهم جميعا نفس السؤال، إلى متى؟

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها