ضحايا الشبكات الاجتماعية!

اتضحت معالم جديدة للشخصية العربية يعتريها التناقض من كل اتجاه، وفي جميع المستويات سواء كانت وجدانية أو تواصلية أو عاطفية أو سلوكية.

سالت أودية كثيرة بمداد نقد الواقع العربي، والإنسان العربي، وتناثرت الرؤى والمقاربات والدراسات التي جعلت اهتمامها المركزي؛ البحث في جغرافيا فكر الإنسان العربي ومساحة رؤيته، وخريطة نظرته، وبوتقة قوقعته…

ولهذه الغاية انبرى الباحثون منذ القدم ومن شتى المشارب (عرب وعجم)، لتشخيص وتشريح الشخص العربي بِدءا برؤية تفكيره، وحال وجوده، وبعقليته ودائرة تفكيره، وبسمات شخصيته و إعطاب واقع عيشه.

انكباب عميق بالفهم والتحليل، وتوسل بخلفيات نظرية ومنطلقات منهجية.. متباينة كانت أو متجانسة، لكن قاسمها المشترك هو نقد التناقض الصارخ الذي يطبع الإنسان العربي في جميع المستويات.

الفضاء الألكتروني أصبح جزءا من حياة البشر

 

وقديما وصف أبو حيان التوحيدي؛  بعضا من هذا التناقض الذي يسكن الإنسان العربي بقوله “ما أعجب أمر العرب، تأمر بالحلم مرةً، والصبر والكظم مرة، وتحث بعد ذلك على الإنصاف وأخذ الثأر، وتذم السفه وقمع العدو!

وهكذا شأنها في جميع الأخلاق؛ أعني أنها ربما حضت على القناعة والصبر والرضا بالميسور، وربما خالفت هذا، فأخذت تذكر أن ذلك فسالةٌ ونقصان همةٍ ولين عريكةٍ ومهانة نفس؛ وكذلك أيضاً تحث على البسالة والإقدام والانتصار والحمية والجسارة.

وربما عدلت إلى أضداد هذه الأخلاق والسجايا والضرائب والأحوال؛ في أوقاتٍ يحسن فيها بعضها، ويقبح بعضها، ويعذر صاحبها في بعضها، ويلام في بعضها؛ وذلك لأن الطبائع مختلفة، والغرائز متعادية.

فهذا يمدح البخل في عرض الحزم، وهذا يحمد الاقتصاد في جملة الاحتياط، وهذا يذم الشجاعة في عرض طلب السلامة؛ وليس في جميع الأخلاق شيءٌ يحسن في كل زمانٍ وفي كل مكانٍ، ومع كل إنسان، بل لكل ذلك وقتٌ وحينٌ وأوان”.

غير أن الواقع اليوم ينضح بتحولات كبيرة تزيد حدة التناقض وتذكي جذوته، فبعد انغماس الإنسان العربي في العوالم الافتراضية، و استخدام تكنولوجيا المعلومات بطريقة استهلاكية فجة، وباستعمال يغلب عليه  الكثير من اللاعقلانية وبمقادير تتجاوز حدود الإدمان، اتضحت معالم جديدة للشخصية العربية يعتريها التناقض من كل اتجاه.

وفي جميع المستويات سواء كانت وجدانية أو تواصلية أو عاطفية أو سلوكية أو تفاعلية أو اجتماعية أو أخلاقية…

اتضحت معالم جديدة للشخصية العربية يعتريها التناقض من كل اتجاه؛ وفي جميع المستويات سواء كانت وجدانية أو تواصلية أو عاطفية أو سلوكية

بعد أن أضحت الشبكات الاجتماعية جزءا من يوميات الإنسان العربي، وتتقاطع فيها أنشطته الواقعية بكل حيثياتها مع أنشطته الرقمية، وغدت هذه الشبكات مشاركا رئيسيا له في حركاته وسكناته؛ وفي حله وترحاله، وفرحه..، في هوسه و هذيانه، في انغلاقه وانفتاحه، في عنجهيته وتواضعه و لينه وعنفه.

وفي انكساراته وانتصاراته، في صداقاته و عداءاته، في إحباطه ونشوته، وفي كل ما يطرأ على مسارات حياته و هنينهات يومياته.

فبعد أن هاجر الإنسان العربي افتراضيا إلى الشبكات الاجتماعية انصرم عقد الخصوصية، وانقطعت عروة القيود الاجتماعية، وأضحى بدون بوصلة توجهه، ولا حيلة تخلصه من رحلة تيه بدأت ولا أحد يتنبأ بمشهد نهايتها…

ولتفصيل المختزل وتفكيك المركب، فالشبكات الاجتماعية أضحت فضاءات الإسقاط لكل تفاصيل الحياة، وحيطان ونوافذ الإنترنت مرايا تعكس واقعا مسيجا بقناع المثالية، ومغطى بكثير من الهروب والتزييف..

الأمر الذي زاد منسوب تعقد الشخصية العربية ورفع مستوى تناقضها، ليصبح الفرد ضحية لشبكات التواصل الاجتماعي، وذلك من خلال مجموع الأنشطة الافتراضية والتي من جملتها على سبيل المثال لا الحصر، هوسه “بالسيلفي” وما يعكسه من مظاهر مَرَضية متعلقة بعدم الرضى عن المظهر.

الشبكات الاجتماعية أضحت فضاءات الإسقاط لكل تفاصيل الحياة، وحيطان ونوافذ الإنترنت مرايا تعكس واقعا مسيجا بقناع المثالية، ومغطى بكثير من الهروب والتزييف..

والجرح النرجسي نتيجة لغياب المتابعات من الأصدقاء والمحبين، أو تجاهل قبول طلبات الصداقة ورغبات الانضمام إلى المجموعات ” الإنترنتيتة “..

وحالة عدم الرضى العام لدى الكثير من الأشخاص “الإنترنيتيين” عن واقع عيشهم وهم يتابعون صور ومقاطع فيديوهات تعكس هنينهات من حياة الناس التي تُظهر وضعيات في شكل صور أو من خلال فيديوهات، وضعيات أمام الكاميرات في ثوان ودقائق..

تبعث على السعادة ورفاهية الحياة، في مطاعم أو حدائق غناء، أو أماكن مغرية وخلابة، أو في فضاءات جميلة تبعث على الهدوء والصفاء الذهني، وفي مسارح النجاح وقاعات البطولات،…

فمتابعة حياة الناس على الشبكات الاجتماعية تجلب التعاسة لملايين البشر، وتجعلهم يعتقدون أن حياتهم في غاية البؤس ومفعمة بالألم ويصاحب هذه التفاصيل بناء عالم من الأفكار تتسرب بشكل سلبي إلى الخلفيات الفكرية للإنسان.

وفي حقيقة الأمر أنه وعي زائف بإسقاطات افتراضية لا تعكس سوى لحظات من حياة الناس في يومياتهم قد تجانب الحقيقة الواقعية…، لكن جاذبية هذه الشبكات وقوة تأثيرها وتوجيهها للسلوك والرغبات تجعل منها مكانس تجذب المزيد من الضحايا وبلا انقطاع.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها