شيوع القتل.. الدواعي والعلاج

جلسة النطق بالحكم في قضية طالبة المنصورة

 

لم تكن بلادُنا في يوم من الأيام مرتعًا للجريمة، ولم تكن شعوبُنا موضوعةً تحت المرصد الذي يحصي أعداد الجرائم النوعية الشاذة التي تشيع بكثرة في المجتمعات المعاصرة، كانت وما زالت بلادُنا وشعوبُنا تُسَجِّل أرقامًا قياسية في كل الدواهي التي تقع عليها، كالجهل والمرض والفقر وغير ذلك مما لا ذنب لها فيه غالبًا، أمّا “الجريمة الشعبية” فهي -بالنسبة لما يجري في دول العالم بما فيها أمريكا وأوربا- قليلة وضئيلة، فما الذي تَغَيّر؟ حتى غَدَوْنا نَفْرِكُ أَعْيُنَنَا كل صباح على فاجعة تقصم الظهور؟! فمن فتاة المنصورة التي قتلها زميلُها في وضح النهار، إلى طالبة الأردن التي قتلها زميلُها أيضًا بالبرود ذاته، إلى فتاة الصعيد التي قتلها أخوها منذ أيام بِسِكِّينِهِ.

ظاهرة مخيفة

هذا اللون الجديد من ممارسة “القتل النوعيّ” لا تكفي الخلفيات العدائية لتفسيره واستكناه فلسفته، لذلك تبرز “روح الإجرام” التي لم تكن موجودة من قبل، وتتصدر قائمة التفسيرات المحتملة لكل جريمة من هذه الجرائم، فإنّه لمن المخيف حقًا أن نرى الأخَ يقتل أخته لخلافات عائلية، والطالبَ يقتل زميلته لمناوشات عاطفية، والزوجَ يقتل زوجته والزوجةَ تقتل زوجها، إنّه لون من القتل غريب ومزعج، كما هو الحال في زنا المحارم وسائر ألوان الشذوذ، وسبب الخوف والانزعاج ليس فقط كثرة هذه الحوادث وتتابعها، وإنّما السبب الأكبر هو فلسفة القتل، وكونه خلوًا من أيّ مبرر يمكن أن نفسر به عملية القتل ثم نجلس ونقول: هذا يفسر ولا يبرر.

هذه الظاهرة تمضي معها على التوازي ظاهرة أخرى تشاركها في كثير من خصائصها المزعجة تلك، لذلك قد تساعدنا في الوصول إلى الأسباب الواقعية التي تقبع وراء الظاهرتين معًا ووراء كثير من المآسي التي يعانيها المجتمع، والتي توشك هي الأخرى أن تُتَرْجَمَ في انحرافات أخلاقية وسلوكية، لا ندري إلى أيّ مدىً في الضياع تذهب بنا وبمجتمعاتنا، هذه الظاهرة هي ظاهرة الانتحار، والانتحار جريمةٌ يرتكبها الشخص في حق نفسه، ولكنّها في نظر الشريعة الإسلامية كبيرة مغلظة، قد ترتقي إلى الكفر إذا تلبست باعتقاد فاسد كالسخط على قدر الله، وسبب تحريمها أنّ نفس الإنسان ليست مملوكة له ليتصرف فيها بالإهدار بلا مسوغ شرعيّ، كما أنّ الشريعة تدفع في اتجاه استدامة الحياة واستدامة الأمل، إلى حدّ أنّ المسلم إذا قامت الساعة وفي يده “فسيلة” فعليه أن يغرسها.

أسباب الظاهرة

لا ريب أنّ غيابَ الخطاب الشرعيّ وتَغْييبَ مصادره يتصدر الأسباب التي تكمن وراء هذه الجريمة وغيرها من الجرائم والانحرافات التي توشك أن تلتهم المجتمع، ولا يخفى على أحد كيف يتم تجفيف منابع الدعوة والتربية، وكيف يحاصر المسجد وتصادر رسالته الإصلاحية، وكيف يُضَيَّق على الأزهر حتى صار يشتغل بالدفاع عن نفسه، وكيف يُطَارَدُ ويلاحق كل داعية حرّ يأبى أن يدخل تحت هيمنة المنظومة الحاكمة، وكيف يتم العدوان على ثوابت الدين ومحكماته باسم التجديد، وكيف تقدم النماذج السيئة من أمثال البلطجية الذين يمارسون الطرب.

لكنّ هذا السبب ليس هو السبب الوحيد ولا السبب الأكبر، فلقد مرّ المجتمع المسلم في جميع بلادنا العربية والإسلامية بمثل هذا كثيرًا، ولم يحدث له ما حدث ولم يَجْرِ له ما جرى، فهناك أسباب أعظم ضررًا وأبعد خطرًا، ويأتي على رأس هذه الأسباب “الفراغ النفسي” بمعنى أنّ هذا الجيل يعيش بلا قضية، وأخطر ما تتعرض له الشعوب أن تعيش بلا قضية، لذلك يُعَدُّ من أسباب نجاح الحكومات أن تجعل للجيل قضية ولو بالانتحال، أمّا أن يكون سلوك الحكومات يميت الشعور بالقضايا التي تثقل أوطاننا، ويصيب النفوس بالتبلد تجاه القضايا العامّة، فإنّ هذا من شأنه أن يخلق في جوف كل إنسان قضية يشتغل بها، لا علاقة لها بعقل ولا شرع ولا ميزان.

العدمية المزدوجة

ولعل من الأسباب أيضًا تلك “العدمية المزدوجة”؛ فإنّ الشعوب إذا عدمت العيش الكريم ولم تعدم الأمل العظيم فإنّها تستمد من هذا الأمل سببًا لاستمرارها، أمّا إذا عدمت المال والآمال فتلك عدمية مزدوجة لا تبقي للحياة قيمة في الحال ولا في المآل، ولا يرى المرء بسببها فرقًا بين الحياة والممات، فيستخف بحياته وبحياة غيره، وترخص عنده النفس التي لا تُقَيَّمُ بِفِلْس، وليس يخفى على أحد -قارئًا كان أو أمّيًّا- الجهة التي تأتي منها هذه العدمية النكدة.

وثَمَّ عدمية مزدوجة أخرى هبطت على الشعوب من الجهة ذاتها، وهي انعدام الشعور بقيمة النفس مع انعدام المعرفة الشرعية بحرمة هذه النفس، فلأنّ الحكومات تستسيغ القتل وتستمرئ التعذيب، ولأنّ المواطن لا يأمن على نفسه ولو كان في يوم من أيام دهره عبدًا لها، فإنّه يعدم الشعور بقيمة النفس والمعرفة بحرمة هذه النفس، ومن هنا يسهل عليه قتل نفسه وقتل غيره.

أين السبيل؟

لا سبيل لإنقاذ مجتمعاتنا وعلاج هذه الانحرافات الخطرة قبل أن تتفاقم وتَعْتَاصَ على الحل إلا بأن يتحرك أصحاب الهمم العالية الذين جعلهم الله في الإنسانية كالغدد الصماء في جسد الإنسان، وأن يحيوا الأمل في نفوس الناس، وأن يبددوا اليأس الذي أطبق على قلوبهم، وأن يمنحوا الشعوب ثقة ببعث القضايا الكبرى في نفوسهم، وأن يجددوا الخطاب الشرعي المعتدل، ويتوجهوا به إلى الشعوب، وإنّ لهم -إن فعلوا ذلك- أن يمدهم الله بقوىً ثلاثةٍ تتحرك تلقائيًا إذا تحرّك الكبار، الأولى: القوة الذاتية التي يتميّز بها الخطاب الشرعي الصحيح المعتدل، الثانية الفطرة السوية التي فطر الله العباد عليها، الثالثة: الطاقة السحرية التي لا تغيب إلا إذا غابت القيادة الرشيدة، طاقة “إيمان العوام”.

المصدر : الجزيرة مباشر