محمد صلاح والموضة السياسية

 

ماذا يعني تسلل مجنّد مصريّ (محمد صلاح 22 عامًا) إلى موقع إسرائيلي وقيامه بقتل عدد منهم قبل أن يُقتل برصاصهم؟ وذلك بعد عبوره مسافة 5 “كيلو مترات” سيرًا على الأقدام.

قبل أكثر من ربع قرن كنت أتحدث مع أحد الأصدقاء من الكُتّاب المصريين، وخلصنا إلى نتيجة يعرفها القاصي والداني وهي أنّ دولة الاحتلال الصهيوني لا تخاف من الجيوش العربية مجتمعة، وإنما كل خشيتها من الشعوب إذا تصرّفت على هواها، تمامًا كما فعل محمد صلاح.

وبغض النظر عما تناقلته وسائل الإعلام ومحاولات الإعلام الرسمي تغليف الخبر بما يخدم مصالح سلطات الاستبداد، فإن الحادثة برمتها لا يمكن إدراجها إلا تحت بند روح المقاومة الشعبية، أو تحت بند الثأر للكرامة المهدورة لهذه الشعوب، فقد عايش المجنّد حادثة قتل لأحد زملائه من قبل الجيش الإسرائيلي قبل شهرين تقريبًا.

هذه الروح التي كنا نظنُّ أنها سُحقت مع سحق الربيع العربي، وتمّ القضاء عليها بعد تدمير سوريا وليبيا واليمن والعراق، تعاود الانبعاث من رمادها، وتعلن عن حضورها لتؤكد من جديد أنّ المقاومة الشعبية لا يمكن لأيّ قوة أن تقف في وجهها، ومن يستذكر التاريخ جيدًا يعلم أنّ الفلّاح المصريّ -على سبيل المثال- أيام الاحتلال الإنجليزي كان يقوم بما قام به محمد صلاح قبيل الفجر، ثمّ يذهب إلى أرضه وكأنّ شيئًا لم يكن.

كذلك كان الناس يفعلون مع أيّ قوة احتلال على سطح هذه الأرض، والشعوب ليست معنية على الإطلاق باتفاقيات السلام المُذلّة، ولا بقرارات التطبيع مع القتلة، وهذا بالضبط ما يفسّر سحق العراق وتدمير سوريا، وتهجير أهلها، وتفتيت ليبيا، واليمن. هذا بالضبط ما يفسر تنصيب عاهات مستبدة على هذه الشعوب.

زراعة الخوف

عندما انطلقت منظمة فتح في ستينيات القرن المنصرم كانت العمليات الفدائية محطَّ فخر وتباهي الشعوب العربية، وكانت وسائل الإعلام لا تتوانى لحظة في بث الحماس والتذكير بالماضي المجيد. نجحت الدول العظمى خلف إسرائيل بتحييد الحكومات، ثمّ نجح المستبدون خلال نصف القرن المنصرم بزراعة الخوف وحراسة حدود إسرائيل، وبالتالي تحييد الشعوب عن طريق التحرير، وبفضل سياسات الاستبداد العربية تمّ التخلي عن مفهوم الصراع العربي الإسرائيلي ليحلّ محله مفهوم النزاع العربي الإسرائيلي، فتمَّ بذلك التخلي نهائيًا عن فكرة المقاومة والتحرير، وكانت الضربة القاضية للمقاومة عندما استأثر حزب الله  بالفكرة مستبعدًا التنظيمات والأحزاب الوطنية اللبنانية كافة من جبهة القتال، ليقدّم لنا لعبة حرب تموز الأخيرة، التي عزّز فيها مكانته كحارس جديد للحدود الإسرائيلية.

الربيع العربي

ما فعله الربيع العربي في نفوس الشباب وإن لم يحقق غايته كان له كبير فضل على إحياء روح الكرامة في نفوس هذه الشعوب، دون أن تعي هذه الشعوب حجم هذه الخطوة وخطورتها، إذ تآمر العالم بأجهزته المخابراتية كافة ليقوم بأكبر عملية سحق لإرادات الجموع، وإعادة زرع بذور الخذلان والإحباط في أرواحها، تتوّجت هذه الحالة بسحق السوريين وتهجيرهم وتدمير بلدهم ليصبحوا عبرة ودرسًا للبقية، ومع بقاء سلطات الاستبداد عادت هذه الشعوب لكهوف الخوف من التغيير (عاوزينها زي سوريا؟!).

ولم تكتفِ المنظومة العالمية الحاكمة بترسيخ هذه الكيانات المستبدة، بل عملت بكل وسائل إعلامها على تفتيت الشعوب إثنيًا وطائفيًا وسياسيًا، مستغلة حالة الجهل الناجمة عن سياسات التجهيل التي مورست على الناس خلال العقود الأخيرة.

الموضة

الآن وبعد كل هذا القهر والكبت يمكننا التساؤل: هل وصلت الأمور إلى نهايتها؟ وهل ما فعله الجندي المصري مجرد صحوة موت أو بعضًا من الأنفاس الأخيرة لهذه الشعوب؟

لا شك أنّ الموضة اليوم تسير مع مفاهيم الاندماج وتفهّم الآخر وقبوله -والآخر هو الصهيوني حتمًا- وبالتالي التطبيع مع (دولة إسرائيل) حتى لو لم تلتزم بأيٍّ من القرارات الدولية أو مقترحات الجامعة العربية، المهم في الأمر تكريس روح الهزيمة وأنّنا لا نمتلك القوة لتحرير الأرض، وأنّ فلسطين أرض للجميع، وعلى الجميع قبول الأمر، لكن ما فعله المجنّد المصريّ محمد صلاح كان تحليقًا خارج السرب، وتفكيرًا خارج الصندوق، لم يكن نتاج هذه السياسات مطلقًا، وإنّما بكل بساطة هو امتداد طبيعي للذاكرة الحية التي لم تنسَ مجزرة بحر البقر مثلًا، وطالما وجدت هذه المجزرة في ذاكرة مصري واحد، فهذا يعني أنّ روح المقاومة ما تزال حية وستبقى، قد تتغير الوسائل لكن الغايات النبيلة والمحقة لا يمكن لها أن تموت. لقد استطاع حافظ الأسد خلال سنوات حكمه حماية حدود إسرائيل بشكل مطلق لدرجة أطلق عليه بعض الجنود لقب ملك إسرائيل، لكن عندما أراد ابنه أن يبرهن على استمرارية سياسة أبيه ويقدّم لهم دليلًا حيًا على ضرورة بقائه، وقام بتمثيلية السماح لبعض أتباعه باختراق الحدود في بدايات الثورة السورية وصل أحد السوريين إلى حيفا ومشى في شوارعها، مؤكدًا سهولة اختراق الحدود لولا حراسة الحكام العرب لها، ومع اعتياد البشر على تقلبات الموضة في الأسواق السلعية لا بد لهذه الموضة السياسية من أن تتبدل أيضًا، وإن تقادم العهد عليها.

 

المصدر : الجزيرة مباشر