الجندي المصري.. بطولة في زمن الهوان

الحارة التي كان يعيش فيها محمد صلاح

 

انتابت وسائل “الإعلام العبري”، وضيوفها المحللين السياسيين، والجنرالات المتقاعدين، حالة من الهذيان والارتباك والهياج، على خلفية مقتل ثلاثة، وإصابة اثنين آخرين من جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي، على يد المجنّد محمد صلاح (23 عامًا)، الذي استُشهدَ في اشتباك مع قوة عسكرية إسرائيلية، بعد اختراقه الحدود المصرية مع فلسطين المحتلة عند معبر العوجة، “أثناء مطاردته لمهرب مخدرات” (حسب المتحدث العسكري المصري). من دواعي هذه الحالة، أن مقتل الجنود الثلاثة والمصابين الآخرين، يعيد إلى الأذهان واقعتي المجندين سليمان خاطر الذي قتل سبعة إسرائيليين في نويبع عام 1985، وأيمن حسن (مولود عام 1967) الذي اخترق الحدود عام 1990، وهاجم “مركبات جنود إسرائيليين”، فيما عُرف بعملية “رأس النقب”، وقتل منهم 21، وأصاب 20 آخرين، بينهم ضابط كبير في الموساد.

الغضب الإسرائيلي

ما زاد غضب الإسرائيليين وإيلامهم، حكومة وإعلامًا، هذه الموجة العارمة من الفرح والسرور، التي سرت بين عموم المصريين (الشعب) كما النار في الهشيم، احتفاءً بالعملية، وشماتة في الإسرائيليين وجيشهم الذي يمارس صنوف الإرهاب كله على الدوام، منذ النكبة عام 1948. الإسرائيليون، حكومة وشعبًا وإعلامًا، مصدومون من سقوط أوهامهم وأحلامهم في التطبيع مع الشعوب العربية.. يتوهمون أن تطبيع العلاقات مع الحكومة المصرية، الذي بدأ بزيارة الرئيس الراحل أنور السادات إلى القدس (1977)، واتفاقيتي كامب ديفيد (1978)، يمكن أن ينال من رفض المصريين القطعي للتطبيع معهم. يتزامن هذا “الحادث”، مع عمليات لمقاومين فلسطينيين داخل الأراضي المحتلة، وكلها تكسر هيبة الجيش الإسرائيلي، وتضرب في مقتل أوهام نظرية الأمن التي تروج لها دولة الاحتلال لجذب اليهود من بقاع العالم، يقض مضاجع الإسرائيليين شعبًا وحكومة، وقد يدفع مهاجرين يهود إلى الفرار من هذه الجنة المزعومة، التي تكاد تكون جحيمًا. هذه العمليات للمقاومة التي ينفّذها فلسطينيو الداخل تأتي ردًا على الاقتحامات للمدن والبلدات الفلسطينية، وقتل الفلسطينيين المدنيين العُزّل، وهدم منازلهم، وتهجيرهم منها، وتشريدهم وأسر الكثيرين منهم، ممارسة يومية لجيش الاحتلال الإسرائيلي.

عداء المصريين لدولة الاحتلال.. لماذا؟

لماذا يكن المواطنون المصريون -والعرب- العداء لدولة الاحتلال إسرائيل؟ ولماذا الفرح العارم والشماتة لمقتل جنودها؟ لمَ لمْ تلجم اتفاقيات السلام مع مصر والأردن والتطبيع (الإبراهيمية) المنعقدة مع بعض الحكومات العربية عام 2020، مشاعر العداء لدولة الاحتلال الإسرائيلي، لدى المواطن المصري والعربي؟ المصريون من أهل المحروسة، مثل الشعب العربي، يسكنهم العداء تحت الجلد، لهذه الدولة التي تمارس صنوف الإرهاب كله، ولا تعنيهم “اتفاقيات التطبيع”، فـ”الحكومات”، تمارس السياسة، ولا تحكمها العواطف، بل المصالح -من وجهة نظرها-، ومن ثم تضبط سلوكها. أما “الشعوب”، فلها مزاج عام، وعواطف ومشاعر، وذكريات مؤلمة، لا تمحوها الاتفاقيات، وبعيدًا عن القرارات والمراسم. هل ينسى “المصريون” شهداء حرب فلسطين عام 1948؟ والعدوان الثلاثي على مصر (1956)؟ الذي شاركت فيه بريطانيا وفرنسا مع إسرائيل، عقب تأميم قناة السويس، وحرب يونيو/حزيران (1967)، ودفن أسراهم أحياء، وكذلك شهداءهم في حرب أكتوبر التي تحقق فيها النصر للجيش المصري، ليكسر أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر؟

لموا الكراريس والفنانة شادية ومجزرة بحر البقر.. والأقصى

أيمكن للمصري نسيان مجزرة مدرسة بحر البقر الابتدائية (إبريل/نيسان 1970)؟ التي نفّذها الطيران الحربي الإسرائيلي، ليقتل 30 طفلًا، ويصيب 50 آخرين؟ هذه المجزرة البشعة جسدتها الفنانة شادية بصوتها المملوء بالحزن والشجن، في أغنية “انتهى الدرس..  لموا الكراريس”، تأليف صلاح جاهين، وألحان سيد مكاوي. هل ينسى المصريون والعرب، المذابح العديدة التي ارتكبتها العصابات الإسرائيلية الصهيونية ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، منذ عام 1947 (مثل: دير ياسين 1948، وخان يونس 1956، المسجد الأقصى عام 1990)؟ وفي لبنان (صابرا وشتيلا عام 1982)؟ هل يستطيع المواطن المصري والعربي والمسلم بالعموم، تجاهل المرارات المتراكمة في النفس، مع الشعور بالعجز وقلة الحيلة، جراء ما يجري في بيت المقدس، من اقتحامات متكررة عبر السنين، تدنيسًا من المتطرفين اليهود والصهاينة للمسجد الأقصى المبارك، أولى القبلتين، الذي عرج منه نبي الإسلام محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى السماء، في معجزة الإسراء والمعراج؟ هل يتعاطف المصريون مع الكيان المُحتل بعد كل ما سبق؟ وهو مجرد أمثلة.. مستحيل طبعًا.

بطولة محمد صلاح.. واختراق السياجات الأمنية والحصون التكنولوجية

إذا كانت حكومة الكيان المُحتل، ومعلوم أنها لا تتورع عن الكذب، قد وصفت الجندي المصري بـ”المخرب”، وأنه قام بعمل تخريبي مُخطط له ومتعمد، رفضًا منها لرواية الجانب المصري، الذي قال إن الحادث “عارض”، فإن هذا لا يغيّر شيئًا من نظرة الشعب المصري الذي توّج المجنّد محمد صلاح بطلًا، واحتسبه شهيدًا، مثلما توّج -من قبل- سليمان خاطر، وأيمن حسن بطلين. الجندي المصري محمد صلاح، بطل دون أدنى جدال، كونه اشتبك مع قوات إسرائيلية مرتين داخل حدودهم، واستُشهد، بعد أن أوقع منهم ثلاثة قتلى، ومصابين اثنين، مخترقًا السياجات الأمنية والحصون التكنولوجية من كاميرات وحراسات ونظم مراقبة متطورة. البطولة هنا متحققة لـ”صلاح”، بغض النظر عما إذا كان يطارد مهربًا للمخدرات، أو اخترق هذه الموانع والحصون كلها لأي سبب آخر.. لا سيما وأن المعلومات المتاحة أنه غير مؤدلج، فلا ينتمي إلى أي تنظيم، وليس له ميول سياسية أو دينية. هذا البطل الذي ضرب كبرياء جيش الاحتلال، وزلزل كيانه، قبل استشهاده.. كتب قبل نحو عامين تقريبًا على صفحته في موقع “فيس بوك”: “أنا ثابت وسط ناس كتير خابت”.

رحم الله الشهيد البطل محمد صلاح، وألهم أسرته وأحباءه الصبر الجميل، فقد رفع رؤوسنا ببطولته الفريدة في زمن الهزائم والهوان، وبعث فينا الأمل في زوال هذا الكيان الغاصب ذات يوم.

 

 

 

 

 

المصدر : الجزيرة مباشر