لا تسألوا الشهيد “محمد” لماذا “السلام” بلا شعبية؟

محمد صلاح

 

قبل نحو عام من استشهاد شرطي الحدود المصري “محمد صلاح إبراهيم” وقتله 3 جنود إسرائيليين، تعهدت الحكومة الإسرائيلية بفتح تحقيق وصفته بيانات رسمية من القاهرة وتل أبيب يوم 10 يوليو/تموز 2022 بـ”كامل وشفاف” بعد نشر وتحقيق مؤرخين كبار وصحف موثوقة بتل أبيب شهادات مصورة لشهود عيان تكشف عن مذبحة ضد نحو 80 ضابطًا وجنديًّا مصريًّا جرى حرق 20 من بينهم أحياء، مع دفنهم جميعًا وجماعيًّا في منطقة “اللطرون” قرب القدس المحتلة في غضون حرب 1967.

عند الإسرائيليين بدا الأمر مثيرًا، ليس فقط لقدرة الرقابة العسكرية هناك على فرض السرية والكتمان على هذه الجريمة ضد الإنسانية لنحو 55 عامًا، وهي بالقطع فترة أطول من سلسلة المقابر الجماعية للأسرى المصريين في سيناء بالحرب ذاتها، التي بدأ الكشف عنها وعلى نحو خاص من عام 2000. لكن لأن المقبرة الجماعية هذه المرة، سرعان ما أصبحت متنزهًا باسم “ميني إسرائيل” يتبع “كيبوتز نخشون” وذلك بعد دفنهم بدون علامات أو إخطار الصليب الأحمر الدولي عنهم. وفي كل هذه الفظاعات ضد مواطني “محمد صلاح إبراهيم” جرائم ضد الإنسانية تنتهك اتفاقات جنيف.

ولكن إلى اليوم، لم نسمع أي معلومة أو نتائج تحقيق، ودعك من كلمتَي “شامل وشفاف”، وبالطبع لا اعتذار ولا أسف. وهو تمامًا ما كان وما زال إزاء عشرات المقابر الجماعية للأسرى المصريين. وهكذا حتى لو اعترف قاتلوهم وقبل ما يقارب الربع قرن بسحقهم بالدبابات وهم عزل، ودفنهم أحياء، في مقابر جماعية بلا حصر تصدرت أنباء الكشف عنها وسائل الإعلام هنا وهناك، إما جراء إعلان إسرائيلي متأخر وبتوثيق وتحقيق “المؤرخين الجدد”، أو بفعل السيول في شبه جزيرة سيناء التي تجرف معها بقايا جثث تقود إلى مقابر جماعية كهذه.

ويصدُق على قضية مذابح الإرهاب الصهيوني الإسرائيلي والمقابر الجماعية ضد المصريين مدنيين أو عسكريين وهي تثور بين حين وآخر المثل القائل “أسمع جعجعة ولا أرى طحنًا”. وعندما تحركت دعاوى بعض أسر الضحايا أمام المحاكم المصرية شاهدنا العجب العجاب، وكأن هناك إرادة لتيئيس المصريين من بصيص عدالة، ولو متأخرة جدًّا.

وما نعلمه أن التقاضي في هذه الملفات استمر سنوات طويلة، وبعض الحالات المنشور عنها في وسائل إعلام مصرية دامت نحو 17 عامًا مع مماطلات وطعون مؤسفة من محاميي الحكومة، وإن جرى الحكم نهائيًّا بالتعويض من السلطات الإسرائيلية يشكو أصحاب الدعاوى من غياب جهة تساعد على التنفيذ.

وما نعلمه أيضًا أن التقاضي في هذه الملفات بالأصل لم يجد من يرعاه ويرفعه ويتابعه بقوة وعزم أمام المحاكم الدولية، أو حتى الإسرائيلية، بخاصة منذ الضجة التي أثارها فيلم “روح شاكيد” الإسرائيلي قبل نحو 16 عامًا. وهذا مع أن مصر كانت حينها تتوفر على مجتمع مدني وحقوقي أكثر قوة وعافية وقدرة على الحركة نسبيًّا من الآن. وبالفعل بادر عدد من مؤسساته حينها لمحاولة التحرك في ملف المذابح والمقابر الجماعية للأسرى المصريين.

لم تسلم جثامينهم

في كتابه/ المذكرات “حرب السنوات الثلاث 67 ـ 1970″، يشير المرحوم الفريق أول “محمد فوزي” وزير الحربية بعد هزيمة 5 يونيو/حزيران إلى نحو 9800 ضابط وجندي مصري جرى حصرهم وتصنيفهم مفقودين، وذلك بمعاونة اتصالات الصليب الأحمر الدولي بعد الحرب، أي أن جثامينهم لم تُسلَّم إلى ذويهم، وهو بالفعل رقم كبير، بل ومفزع.

وقبل وفاته بسنوات معدودة، أبلغني شيخ المؤرخين المصريين الدكتور “عادل غنيم” رحمه الله، وكان المشرف على كتابة “موسوعة مصر والقضية الفلسطينية” المُشكّلة بقرار من مجلس الوزراء المصري والتابعة لوزارة الثقافة للتأريخ لحروب مصر مع إسرائيل، بأنه أرسل قبل وفاته في سياق إعداده لأجزاء حرب 67 من الموسوعة إلى الجهات المعنية من دار الوثائق لوزارات وجهات سيادية كى تسمح بالاطلاع على ما لديها، ولكن من دون أن تتفضل جهة واحدة بالاستجابة، بل تجاهل العديد من الجهات الرد بالأصل على مكاتباته، وهذا ما دونته وسجلته في مقال بعنوان “المؤرخ عادل حسين وحديث الوثائق” بجريدة الأهرام وقبل رحيله بالعدد 13 أكتوبر/تشرين الأول 2015. وعلى أي حال، فقد توقف نشر أجزاء الموسوعة دون استكمالها، كما لم يتحقق لليوم نداء “غنيم” وغيره من المؤرخين والكتّاب المصريين بإصدار قانون لإتاحة الوثائق في مصر بعد فترة زمنية كافية ومعقولة.

والمشكلة الأخطر هنا تتجاوز كتابة التاريخ الوطني وحق المواطن في المعرفة إلى التساؤل عن مدى دفاع السلطات والدولة عن حقوقه وكرامته وآدميته عند المساس بها جراء الحروب، فضلًا عن حفظ ذكرى المحاربين الشهداء مفقودين أو معلومين وتخليدهم وتكريمهم. لكن المفاوضات التي دخلها الرئيس “السادات” مع إسرائيل، وما أسفرت عنه من اتفاقات ومعاهدة في نهاية سبعينيات القرن الماضي، لا تعكس اهتمامًا لا بالمفقودين في الحروب معها، ولا بغيرهم من ضحايا الإرهاب الصهيوني الإسرائيلي بين المصريين، سواء في سيناء أو مصر كلها. وفي الصميم هنا تكمن نظرة السلطة عندنا في مصر وغيرها من المجتمعات العربية إلى قيمة المواطن واحترام حقوقه كإنسان في الداخل وإزاء الخارج.

وعند عموم المواطنين لا المثقفين وحدهم، تظل المقارنة واردة مع أولئك الذين حاربوهم. وفي هذا السياق، يعلم مصريون كيف كان رئيس الوزراء الإسرائيلي “مناحم بيجين” ووفده المفاوض في “كامب ديفيد” وبعدها يلح ويقاتل من أجل استعادة رفات آخر عسكري إسرائيلي؟ بل ويتمسك ـومن غير وجه حقـ بإبقاء قبر للجندي الإسرائيلي المجهول في منطقة “الحسنة” بسيناء، ويؤمّن ضمانات زيارة مواطنيه له، ناهيك عن الإبقاء على “صخرة ديان” شرقي سيناء كنصب تذكاري مدوَّن عليه أسماء عدد من الطيارين الإسرائيليين القتلى.

والفارق بين مفهوم ونظرة “السادات” وغيره من المفاوضين العرب إلى مواطنيهم مقارنة بمفهوم ونظرة “بيجين” تجاه الإسرائيليين، انعكست بدورها على نصوص اتفاقات ومعاهدات غير متكافئة. وببساطة يستمد المحارب والمفاوض في الحالتين هنا قوته وتفوّقه من كونه مقيدًا ببرلمان ومعارضة وبمؤسسات وصحافة ورأي عام وحقوق مواطنيه، وبالطبع بصندوق انتخاب تعددي حر نزيه يضمن تداولًا سلميًّا للسلطة.

جيل محمد صلاح

وفوق هذا، فإن الشعوب العربية، جيلًا بعد جيل إلى الشهيد “محمد صلاح”، اختبرت بنفسها وبواقعها المعيش أن “سلامًا” كهذا لا يجلب رخاءً مهما صحبه من وعود وأوهام كاذبة، بل الأرجح أن يجلب “السلام غير العادل أو المتكافئ” وخضوعًا إلى العنصرية الصهيونية وتقبّلًا لها معه المزيد من القمع والانتقاص من هامش الحريات والحقوق. وفي سنوات “السادات” الأخيرة منذ زيارته القدس المحتلة خير مثال ونموذج لهذا الارتباط بين “سلام” كهذا وقمع، وهو ما تأكد لاحقًا وإلى اليوم في دول عربية أخرى.

وبالطبع، فعند المصريين وغيرهم أسباب أخرى لكراهية إسرائيل، وهي حية متجددة، وما زالت باقية، بل ومتعاظمة مع القضية والمعاناة الأكبر؛ فلسطين وشعبها، وتجعلهم -إلى جانب ما سبق من جروح مفتوحة نازفة أشرنا إليها هنا- يرونه “لا سلامًا” ولا “عادلًا”. ولذا، لا تسألوا الشهيد “محمد صلاح إبراهيم”: لماذا السلام يفتقد الشعبية إلى الآن بعد نحو 45 عامًا من اتفاقات “كامب ديفيد”؟

المصدر : الجزيرة مباشر