لماذا فاز أردوغان؟ إمام المسجد الذي غيَّر طريقه إلى زعامة تركيا

بنسبة زادت على 52% فاز رجب طيب أردوغان بولاية رئاسية جديدة، ليحقق رقما قياسيا غير مسبوق في تاريخ الجمهورية التركية بعد وفاة مؤسسها مصطفى كمال أتاتورك؛ إذ تمكن أردوغان من الفوز في 16 استحقاقا تصويتيا يشمل انتخابات برلمانية وأخرى رئاسية واستفتاءين على تعديل الدستور.

سيكتب التاريخ التركي أن أردوغان هو الزعيم الوحيد الذي أنهى حياته السياسية دون هزيمة واحدة، ونجح في تحقيق معظم أهدافه الاستراتيجية بصبر وشجاعة يحسد عليهما.

ومن المؤكد أن التاريخ سيكتب الكثير عن هذا الرجل الذي شقّ طريقه من إمامة المصلين إلى زعامة الدولة التركية، ولا يضاهيه في هذه الزعامة ولا المكانة إلا أتاتورك.

فمدارس الأئمة والخطباء -التي تخرج فيها- تؤهل المتخرجين للإمامة وإرشاد الناس، وفي بيئة علمانية مثل تركيا فإن هؤلاء الخريجون يأتون في مرتبة دنيا من السلم الاجتماعي ويُنظَر إليهم بدونية واستعلاء.

لكن أردوغان قلب المعادلة، وهنا تحضرني قصة ذات دلالة استمعت إليها من الملحق الثقافي في القنصلية المصرية بإسطنبول عام 2013، حدثت له أثناء دراسته للدكتوراه في تركيا أواخر التسعينيات، إذ كان متخصصا في اللغة التركية، وفي أحد الدروس طلب منهم الأستاذ أن يكتبوا موضوعا عاما دون تحديد، يقول لي: فقررت أن أكتب موضوعا عن أردوغان لصعوده السياسي الواضح حينها بسبب إنجازاته أثناء رئاسة بلدية إسطنبول، وأتوقع فيه مزيدا من ذلك الصعود، فغضب الأستاذ التركي بشدة عقب قراءة الموضوع وقال: من أردوغان هذا؟؟ إنه مجرد إسلامي لا يفهم في السياسة شيئا! أين هو من أجاويد أو ديميريل أو يلماظ أو غيرهم؟؟؟

لكن مرت السنون وأثبت أردوغان أنه زعيم أعظم إنجازا وأقوى تأثيرا ممن ذكرهم.

كانت كل الظروف تتهيأ لرحيل أردوغان بهزيمة قاسية تنهي حياته السياسية، فالتضخم أثقل كاهل المواطنين، والبقاء في السلطة حوالي 21 عاما كافيا لملل الجماهير وبحثها عن التجديد والتغيير، كما أن التحالف الذي تكوّن ضده ليس بالسهل فقد ضم أكبر ثلاثة أحزاب معارضة (الشعب الجمهوري – الحزب الجيد – حزب الشعوب الديمقراطي) إضافة إلى اثنين من رفاق أردوغان القدامي أحمد داود أوغلو وزير الخارجية ورئيس الوزراء ورئيس حزب العدالة والتنمية السابق، وعلي باباجان وزير الاقتصاد السابق، ومعهما رئيس حزب السعادة الإسلامي المحافظ تمل كرامولا أوغلو رفيق أردوغان القديم تحت زعامة نجم الدين أربكان رحمه الله. وقد حظي هذا التحالف بدعم خارجي هائل من المؤسسات الإعلامية والمدنية في أوربا وأمريكا وفي الداخل التركي أيضا.

لكن أردوغان فاجأ الداخل والخارج على حد سواء بأداء سياسي رشيق وكأنه لا يزال في عام 1994 عندما ترشح للمنافسة على رئاسة بلدية إسطنبول، ذات الحضور ونفس القوة في قيادة الحملة الانتخابية، وحشد الجماهير والتأثير فيها.

لذا كان السؤال المشترك على معظم القنوات الإخبارية عقب ظهور النتيجة لماذا فاز أردوغان؟؟

استمعت إلى تحليلات متعددة لكنها تقريبا ركزت في تفسيرها على “الآخر” سواء أكان المرشح المقابل كمال كليجدارأوغلو بأخطائه الاستراتيجية التي تحدثنا عنها عقب الجولة الأولى ومعه بقية تحالف الأمة، وهي أخطاء تستحق الدراسة بدون شك، أو كانت جموع الناخبين ومحاولة استكشاف دوافعها التصويتية وهو أمر مطلوب أيضا، وربما نتناوله لاحقا.

لكن لم يحاول أحد الاقتراب من شخصية الفائز نفسه، لأسباب نفسية معروفة خاصة من القنوات الإخبارية الناطقة بالعربية التي تبث من أوربا والولايات المتحدة التي اتخذت موقفا عدائيا صارخا من أردوغان.

أردوغان.. ابن الأحياء الشعبية

لا يمكن فصل الصفات الشخصية لأردوغان عن سلوكه السياسي، إذ تركت تلك الصفات بصمتها على سلوكه وصورته الذهنية في الوعي الجمعي للشعب التركي.

فهو الرئيس القوي والشجاع الذي لا يخاف من منافسيه، أتذكر أن فتاة تركية في العقد الثالث من عمرها قالت لي قبل عدة سنوات: “منذ أن وعيت على الحياة ليس أمامي من قائد سوى أردوغان، إنه إنسان قوي لم أره قط في موقف ضعف، طوال حياتي وأنا أراه قويا منتصب القامة”.

ما قالته هذه الفتاة يمثل انطباعا سائدا عنه حتى بين معارضيه وأشد الناس كرها له. أما الطبقات الفقيرة والمهمشة فتراه سندا لها وتوقن بأنه الأشد عطفا عليها ومساعدة لها، فرغم ارتفاع نسبة التضخم التي عانت منها تلك الطبقات أكثر من غيرها فلا تزال تؤمن بأن أردوغان وحده هو القادر على العبور بها من تلك الأزمة، والتخفيف من آثارها.

شق أردوغان طريقه من حي قاسم باشا في إسطنبول، وهو الحي الشعبي العريق، فاكتسب من أهله صفات أبناء الأحياء الشعبية من الشهامة والمروة والرجولة، كما عاش معهم حياة العوز والفقر، فأحس بمعاناتهم، واضطر في صباه إلى بيع “السميط” في الشوارع لتوفير قروش قليلة يساعد بها أسرته، هذا السلوك لابد أن يترك أثره في شخصية الإنسان حين يشبّ ويكبر.

أضف إلى ذلك نشأته في أسرة متدينة حببت إليه الإسلام وفرائضه، وبصفة خاصة أمه التي طبعت عليها من حنانها وشخصيتها القوية، كما لا ننسى أصوله التي تنحدر من ريزه على ساحل البحر الأسود، حيث يعرف عن سكان تلك المناطق قوة الشخصية وحدة الطبع وطيبة القلب، إنهم أشبه ما يكونون بأهل الصعيد في مصر، فمن كل هذه التوليفة تكونت شخصيته، التي شعر فيها الشعب التركي بالقرب والحميمية.

أردوغان .. سياسي لا يستهان به

بدأ أردوغان مشواره السياسي عام 1976 حين انتُخِب رئيسًا للمنظمة الشبابية لحزب السلامة الوطني (حزب أربكان) بمنطقة باي أوغلو في إسطنبول، وعلى مدار47  عاما عاصر أحداثا سياسية جسيمة وتقلبات حادة، فقد شهد الانقلاب العسكري عام 1980 وعايش تدابيره القاسية التي طالت حزب السلامة الوطني، وتنفس الصعداء مع وصول تورغوت أوزال إلى رئاسة الوزراء ثم رئاسة الدولة، حيث ترك أوزال أثرا واضحا في وعيه لا يزال يصاحبه حتى الآن، وكان رفقة أربكان عندما عاد لممارسة السياسية وأسس حزب الرفاه، ومن خلال الحزب وصل إلى رئاسة بلدية إسطنبول، ثم شاهد اعتلاء أربكان رئاسة الوزراء ثم الانقلاب العسكري عليه في فبراير/ شباط 1998 وكيف عصف بالحريات الأساسية للمواطنين وخاصة الإسلاميين منهم، وسجن أردوغان بسبب أبيات من الشعر، وعاصر الانهيار الكبير للدولة التركية نهاية القرن الماضي قبل أن يقرر ترك أستاذه أربكان وتجربته عندما أيقن أنها وصلت إلى طريق مسدود، وأسس تجربته الجديدة محافظا على أفكار “المللي غوروش” في عقله ووعيه حيث عمل على تنفيذ معظم ماورد فيها بكل قوة كلما تسنى له ذلك وتهيأت الظروف.

هذا التاريخ السياسي الحافل مضافا إليه الصفات الشخصية التي تحدثنا عنها آنفا، صنع له النجاح في بيئة سياسية تتسم بالشراسة ولا تعرف الرحمة، وقد رأى الجميع كيف أطاحوا بمحرم إنجه من السباق الانتخابي بالتهديد بتسجيلات ثبتت فبركتها.

اقتحم أردوغان الحلبة السياسية بكل قوة وخاض معارك ضارية ضد التنظيمات السرية الإرهابية مثل غولن وحزب العمال (PKK)، ونجح في إنهاء الوصاية العسكرية وفي مواجهة انقلابين عسكريين أحدهما ناعم في 2007 والآخر دموي في 2016، وأعاد تنظيم الدولة وفق النظام الرئاسي وقضى على النظام البرلماني الذي كان مدخلا للفوضى التي عانت منها تركيا لعقود.

خاض أردوغان هذه المعركة الانتخابية متسلحا بكل هذه الصفات والخبرات الطويلة فتابع الرأي العام داخل تركيا وخارجها كيف نجح في حشد الجماهير خلف رؤيته عبر خطاب إسلامي قومي منسوج بعناية، وكيف لعبت خطاباته المؤثرة دورا مهما في تعزيز مكانته بين فئات الشعب المختلفة. وليس أدل على ذلك من أن المعارضة التي خاضت الانتخابات وفي تدبيرها أنها ستنجح في إسقاطه من خلال ملف الاقتصاد، فإذ بها تفاجأ بأنه سبقها بخطوة وتمكن من تهميش ذلك الملف في الصراع ليضع كليجدارأوغلو وتحالفه في قفص الاتهام من خلال التركيز على علاقته بحزب الشعوب الديمقراطي وتنظيم “PKK” الإرهابي، الأمر الذي لم تفطن له المعارضة إلا في الجولة الثانية!! ولكن بعد فوات الأوان.

المفارقة أن كل زعماء المعارضة يعرفون أردوغان جيدا، وبعضهم لازمه وتعامل معه عن قرب، لكن اجتاحتهم حالة من الاستعلاء غير المبرر، وهم يتعاملون معه، فميرال أكشنار تتحدث عنه بازدراء وتقول: إن أردوغان لم يقرأ 100 صفحة من كتاب في حياته!! وأكرم إمام أوغلو يسخر منه قبل انتخابات الجولة الأولى بيوم تقريبا بزعم أنه لم تتبق إلا ساعات “ويذهب أردوغان إلى البيت لشرب القهوة مع زوجته” ويطالبه مستهزئا بـ”عدم ممارسة السلطة معها آنذاك!!”، وداود أوغلو يصفه بالدكتاتور ويتهمه بـ”الكذب”.

لكنهم في نهاية المشوار اكتشفوا أنهم كانوا أسرى مواقع التواصل الاجتماعي بكل ما فيها من خداع ووهم، في حين كان أردوغان يشق طريقه وسط الحشود والجماهير بمهارات حمل بعضها داخله منذ الصغر، واكتسب بعضا آخر خلال مشوار طويل؛ ولذا يستحق -عقب الفوز برئاسة الدولة وأغلبية البرلمان- أن يكون هو نفسه نقطة البداية لمعرفة تفاصيل ما حدث، ولماذا خسرت المعارضة في أهم انتخابات عام 2023 ليس في تركيا وحدها بل في العالم كله.

المصدر : الجزيرة مباشر