سباق الشرق والغرب للتحرر والخروج من التبعية

زعماء مجموعة السبع يحضرون اجتماعا لقمة زعماء المجموعة في هيروشيما باليابان

من المهم جدًّا التوقف أمام التصريحات المتعاقبة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، منذ وصوله إلى السلطة عام 2017 حول أهمية وسرعة الخروج الأوربي من الهيمنة الأمريكية، واكتساب مزيد من الاستقلالية الاستراتيجية، واعترافه بوجود واقع جديد، مع صعود قوى أخرى مثل روسيا والصين، ثم اعترافه أخيرًا بانتهاء حقبة الهيمنة الغربية على العالم، وانتهاء الهيمنة الفرنسية على أفريقيا.

لم يكن ماكرون صوتًا نشازًا في القارة الأوربية في هذا الصدد، بل سبقته وتزامنت معه تصريحات وتوقعات أخرى عديدة، إلا أن ماكرون كان الأكثر وضوحًا وشفافية في التعامل مع هذا الواقع الجديد، الذي قام بتتويجه بتلك الزيارة التاريخية للصين الشهر الماضي، في خضم التوتر الحاصل بين كل من بكين وواشنطن، التي أكد خلالها أيضًا أن النظام العالمي في حاجة إلى تغيير، مع تراجع الهيمنة الغربية على العالم، على حد قوله.

وقد بدا واضحًا أن الممارسات الغربية عمومًا تسير في هذا الاتجاه، فيما يتعلق بالعلاقات مع الصين تحديدًا وارتفاع حجم التبادل التجاري بين الجانبين إلى (912,6 مليار دولار العام الماضي)، ثم العلاقات مع موسكو، والاعتماد على الغاز الروسي، على الرغم من أزمة الحرب في أوكرانيا وإمدادات السلاح “الدفاعية” إليها، وكذلك العلاقات مع الهند، وكلها أمور لا تروق للإدارة الأمريكية، إلا أن الشارع الأوربي بدا يدرك جيدًا، مثل الأحزاب السياسية تمامًا، أن النظام العالمي في طريقه إلى التغيير الجذري، ليس فيما يتعلق بالتحالفات السياسية والعسكرية فقط، بل فيما يتعلق بالسياسات الاقتصادية أيضًا، والحد من الاعتماد على الدولار بوصفه عملة استراتيجية عالمية.

بموازاة ذلك التوجه الأوربي، يأتي التوجه العربي القوي نحو الصين، والواضح نحو روسيا، والأخير نحو إيران، والدخول القوي إلى القارة الأفريقية، والاستثمارات الكبيرة في تركيا، ليؤكد أن الشرق أيضًا يسعى للاستقلال والخروج من العباءة الأمريكية والغربية عمومًا، أو على الأقل إقامة علاقات متوازنة مع كل الأطراف، وهو الأمر الذي يؤكد أن واقعًا جديدًا فرض نفسه على العالم بالفعل، وذلك بالتزامن مع توجه قوي مماثل في القارة السمراء للخروج من الهيمنة الفرنسية بشكل خاص، وهي أزمة أصبحت تتعامل معها فرنسا بواقعية شديدة، حتى لا تجد نفسها في صدام لن يكون جديًّا بأي شكل من الأشكال.

عدم الانحياز

المؤكد هو أن حالة عدم الانحياز هذه قد أسهمت الآن، وسوف تسهم في المستقبل، في تراجع التفكير في أي مواجهات مباشرة بين أطراف الصراع، خصوصًا في كل من واشنطن وموسكو، على الرغم من وجود قواعد عسكرية في بلدان عديدة، إلا أن الاعتماد على هذه القواعد بمعظم الدول في شن هجمات على دول صديقة يصبح أمرًا عسيرًا، وهو ما يشير إلى أن العالم مقبل على تهدئة وليس العكس، لتحل المنافسات الاقتصادية والسباق التكنولوجي، بديلا للمواجهات العسكرية المباشرة، التي قد يقوم بها البعض بالوكالة، كما هي الحالة الأوكرانية حاليًّا.

ولكن في كل الأحوال، يجب أن يعترف العالم، بأن هناك بقعة صراع وتوتر يمكن أن تشعل نيران الحرب بين لحظة وأخرى، وهي تلك المسماة “إسرائيل” التي هي آخر دولة احتلال في العالم، وهناك شعب فلسطيني في الداخل والشتات يزداد إصراره يومًا بعد يوم، وجيلًا بعد جيل، على تحرير أرضه، بما يعني أن الرهان على عامل الوقت بالنسيان والتراخي، لم يجد نفعًا في التعامل مع هذه القضية العادلة المستمرة على مدى 75 عامًا، وقد آن الأوان لنزع ذلك الفتيل القابل للاشتعال على الدوام، إذا كانت النيات صادقة بالفعل للاتجاه نحو السلام العالمي وتحقيق العدل.

من المؤكد أيضًا، أن حالة الاستقلالية هذه التي تسعى إليها معظم دول العالم الآن، سوف تحد من أنشطة سباق التسلح، لتصب في نهاية الأمر في الجانب التنموي، بل سوف تتراجع معها عمليات السباق النووي وتخصيب اليورانيوم في العديد من الدول التي أخذت هذا المنحى، على الرغم مما يمكن أن يسببه ذلك من خسائر للصناعات العسكرية الغربية والأمريكية بشكل خاص، التي اعتمدت طوال عقود عديدة على تأجيج الصراعات، خصوصًا في منطقة الشرق الأوسط.

التحول العالمي الخطير

في كل الأحوال وللمرة الأولى، نحن أمام نقطة التقاء غربية عربية، الغرب يسعى للخروج من الهيمنة الأمريكية، والعرب يسعون للخروج من التبعية الغربية الأمريكية، لحساب نظام عالمي جديد، ينهي أكثر من قرن من الزمان، صبت فيه ثروات العالم الثالث -عربيًّا وأفريقيًّا بشكل خاص- في خزائن الطرف الأقوى عسكريًّا، فيما يشبه عالم الغاب، حيث يأكل القوي الضعيف بلا هوادة ولا رحمة، وقد آن أوان التحرر.

ولكن يجب الاعتراف بأن هذه الحالة لم تأت من خلال نضال وكفاح الشعوب والحكومات المغلوبة على أمرها، بقدر ما هي جهود صينية بالدرجة الأولى، عملت في صمت على مدى أكثر من نصف قرن، وسياسات روسية لم تستكن بعد تحلل القطب السوفييتي السابق، وعمليات تمرد مستمرة من أنظمة في الشرق والغرب والشمال والجنوب، وبالدرجة الأولى أيضًا أخطاء أمريكية أوروبية مشتركة، حيث انعدام العدالة في التعامل مع القضايا الدولية، وسياسة الكيل بمكيالين، فضلًا عن سفك دماء غزيرة، وغزو لبلدان آمنة، وإشعال صراعات، كانت الدول العربية الأكثر وقودًا لها وخسارة من جرائها في معظم الأحوال.

السؤال: هل ستقبل الولايات المتحدة الأمريكية بهذا التحول العالمي الخطير، على غرار الموقف الفرنسي من الحالة الأفريقية، أم أن الأمر سوف يتطلب مواجهات عقيمة، إلا أنها قد لا تبقي ولا تذر؟

المصدر : الجزيرة مباشر