الانتخابات التركية بين المصداقية والاحتيالات السياسية

تمثل الانتخابات عقدا قائما بين الناخب والمرشح ويُبرَم ذلك العقد وتوثَّق الصفقة عن طريق التصويت في صناديق الاقتراع. فالمرشح يستجيب لمطالب الناخبين ويتمكن من اكتساب ثقة الشعب والحصول على عدد أكبر من الأصوات التي تؤهله للوجود في السلطة بطريقة شرعية، وكل ذلك دون أن يحصل الناخب على أي ضمانات من المرشح تؤكد تحقيقه ما وعد به، والسياسيون الذين ينسون كل كلماتهم بعد توليهم مناصبهم هم أحد الرموز المهمة في مسرح السياسة. فلا يوجد إيصال أو وثيقة أو تعهد ملزم من المرشح مقابل التصويت؛ لذلك فإن الورقة الوحيدة الرابحة في أيدي الناخبين هي أن السياسة تسمح لهم بمواجهة المرشح السياسي مرة أخرى في الانتخابات المقبلة.

إن فكرة ونمط السياسي الذي يستطيع الحصول على الأصوات في كل مرة على الرغم من أنه يكذب مرارًا وتكرارًا على الناخبين، موضوع لا يمكن الاستهانة به في السياسة التركية. وفي هذا السياق فإن النقطة المثيرة للاهتمام هي أن السبب الحقيقي للوقوع في نفس الخدعة مرات عديدة هو قصد الخداع والكذب المشترك من الناخب والمرشح السياسي، أي أن مكمن ذلك هو الأيديولوجيا ذات التأثير القوي في مسيرة العملية السياسية. فكما أن المرشح الذي لا يتراجع عن الكذب والخداع والوعود الجوفاء ليس غريبا على السياسة التركية، فإن الناخب الذي لا يتراجع عن اختياراته حتى لو لم يتلقّ أي خدمات من الحزب ولم يحقق أي شيء من وعوده، نمط موجود في قائمة الناخبين في تركيا أيضا.

بالطبع، يمكن وضع هذا التحليل في نفس الصنف مع الانتقاد الذي غالبًا ما يصدر عن الاختصاصيين السياسيين الذين لا تعجبهم إرادة الناخب. دعنا نؤكد فرقًا واضحًا جدًّا هنا: تحدث صفقة أكثر رشدًا وعقلانية بكثير بين ناخبي حزب العدالة والتنمية (AKP) وحزبهم. إذ يمكن لناخبي حزب العدالة والتنمية أن يعاقبوا حزبهم فورًا عندما لا يعجبهم مرشحهم أو موقفه أو بعض سياساته عن طريق عدم التصويت له. ولهذا السبب فإن نسبة الأصوات التي حصل عليها الحزب من قبل والتي كانت تصل إلى 49.5% قد تراجعت إلى 42.6% عام 2018 والآن إلى 35.6%.

وقد حدث الشيء نفسه في انتخابات البلديات. لا يغفر ناخبو حزب العدالة والتنمية أدنى خطأ أو انحراف في الوعود التي يقدمها الحزب لهم. أي أن نسبة الأصوات ارتفاعا وانخفاضا تتأثر بالمرشح وتعتمد بشكل مباشر على الممارسة السياسية وجودة الخدمات. هذا إلى جانب التأثير المباشر في نسبة الأصوات لقائمة المرشحين التي لا تأخذ في الاعتبار الهيكل الديمغرافي لمدينة ما.

هذه المقارنة

ومع ذلك فإن جانب المعارضة ليست لديه هذه الحالة الصحية في نسبة الأصوات سواء بين ناخبي حزب الشعب الجمهوري (CHP) أو حزب الشعوب الديمقراطي (HDP)؛ إذ يكفي لديهم أن يكون المرشح مرشحًا من قِبل دميرطاش أو حزب الشعب (CHP)، سواء كانت هذه الشخصية قد جاءت من محافظة أخرى أو من الولايات الغربية أو حتى إذا كانت ليست كردية، وبغض النظر عن كيفية تعيينها وتقديمها للأكراد في إحدى المحافظات في جنوب شرق البلاد؛ فإنه يتم انتخابها بدون تردد أو شروط متعلقة بالخدمات أو القدرة على التمثيل البرلماني أو الدين أو كونه رجلا أو امرأة. أي أنه يتم الانتخاب دون أي استجواب أو اعتراض في نموذج واقعي للتقليد والطاعة العمياء.

وبالطبع هذه المقارنة وحدها كافية لإظهار البون الشاسع في مدى المصداقية والتوازن الأيديولوجي والعقلاني والسياسي بين ناخبي حزب العدالة والتنمية وناخبي حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديمقراطي. ورغم ظهور هذه الحقيقة واضحة في كل استحقاق انتخابي بسهولة فإن نتائج انتخابات 14 مايو/ أيار تستحق تحليلا أكثر عمقا وتفصيلا.

وتأسيسًا على هذه الحقائق لم يكن لدى كليجدار أوغلو الأصوات المُؤَدْلَجَة الكافية لفوزه بمنصب الرئاسة. ولذلك حاول التقارب مع الجانب الآخر باستخدام وسائله الخاصة وسعى لإنشاء تحالف دون النظر إلى تعارضه مع تقاليد حزبه كليا أو جزئيا. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل قدَّم وعودًا تفوق حدود الخيال، إلى درجة أن هذه الوعود قد يناقض بعضها بعضًا وبالتالي تفقد مصداقيتها؛ إذ وعد كل طرف بما يريد. ومن التناقضات الواضحة تحالفه مع تشكيل سياسي في طيات حزب العمال الكردستاني الإرهابي، وفي الوقت نفسه يدعي أنه يريد محاربة الإرهاب. وفي السياق ذاته أدلى بتصريحات انتقامية من بعض الأطراف وتصريحات تدغدغ أفكار بعض آخر.

فتراه أعاد إيقاظ مشكلة الأكراد التي تكاد تكون انتهت إلى موضع متقدم في السياسة التركية، وعمل على إعادة إنتاجها والحديث عن حل لها. ولم يتردد في صناعة ضجة سياسية بحديثه العنصري عن السوريين وبث كراهيتهم في مشهد عبثي ليس له أي مصداقية لما فيه من احتيال في محاولة للترويج السياسي والاستيلاء على الأصوات المضطربة غير الموجهة. فصير حال الناخبين حال من دخل دوامة وضبابية يتقاذفه تيارها إلى حيث لا يدري ويوهمه بأنه مستيقظ ويدرك ما يفعله. حين يظهر أحد الباعة المتجولين الذي يحترف الكذب ويعد بما لا يملك للاحتيال على الزبون، فيحتال في الإحصاءات والأرقام ويتحدث عن 1% من الأصوات له على أنها 15% بينما يخسر 38 نائبا على أرض الواقع.

الأكراد والسوريون

دعونا لا نتجاوز هذا، من المؤكد أن منهج كليجدار أوغلو في التقارب والصداقة اتجاه المسألة الكردية، وسياسة الكراهية اتجاه السوريين التي يتبعها هؤلاء ليست مواقف متوافقة بأي حال. كما أنه لو كان المنهج اتجاه المسألة الكردية وفيًا لكان قد تعامل مع المشكلة بصدق بغض النظر عما إذا كان سيحصل على أصوات من هناك أم لا. أما أردوغان فإنه لم يتراجع في موقفه من حل المشكلة الكردية من البداية دون النظر إلى الأصوات. ولا شك أن ذلك لم يجلب لأردوغان أي فوائد سياسية بل يعد مخاطرة كبيرة كمن يقدم على تجرع سُمِّ “الشوكران الأبقع”. وعلى الرغم من ذلك، لم يتراجع خطوة إلى الوراء عن موقفه من هذه القضية، والآن لم يغير موقفه للحصول على المزيد من الأصوات.

فقد كان حل المسألة الكردية بشكل عام في رؤية أردوغان موقفًا منطلقا من الوقوف إلى جانب الشعب المظلوم المضطهد تماما كما هو الحال في موقفه من مشكلة السوريين. بينما نجد الذين ليست لديهم أي فضيلة على الإطلاق يتحدثون عن إرسال السوريين اليوم ويعدون بمعاملة غير إنسانية لأشخاص غير قادرين الآن على الدفاع عن أنفسهم وليس لديهم أي مكان ليذهبوا إليه. فتكون النتيجة تكرار لما تعرضت له تركيا وشعبها في الماضي من الظلم والاضطهاد.

إن السياسة التي تتسامح مع هذه المعاملة للسوريين لا يمكن أن تكون ودية مع الأكراد، لأنها لا يمكن أن تكون ودية مع الناس عموما. لم يكن نهج أردوغان والمحافظين اتجاه المسألة الكردية حسابا سياسيا أو استثمارا، والآن أيضا لم يصبح نهجه اتجاه اللاجئين حسابا واستثمارا.

ولهذا السبب بالضبط عندما سُئل أردوغان قبل يومين فقط من الانتخابات عن إعادة السوريين لم يتردد في تقديم إجابة بعيدة كل البعد عن أي حسابات سياسية. فهو لم يكن قلقا من أن يؤدي هذا الرد إلى خسارة الأصوات في بيئة تحمل خطابا استفزازيا مناهضا للسوريين. لقد عامل أردوغان السوريين بنفس الطريقة التي عامل بها الأكراد والعلويين وكل المظلومين.

وهذه المعاملة نابعة مما تحمله شخصيته من إنسانية ورحمة، فهو موقف بعيد كل البعد عن أي نوع من الحسابات السياسية، إلى جانب مواقف عديدة جعلت أردوغان مختلفا وذا مصداقية وثقة حقيقية.

المصدر : الجزيرة مباشر