الاقتراض لأداء فريضة الحج.. هل يجوز؟!

كلما اقترب موسم الحج، هفت نفوس المسلمين إلى زيارة بيت الله الحرام، لأداء الفريضة التي افترضها الله عليهم، مرة في العمر، ولأنه فريضة مرتبطة بالقدرة المادية، فإن الكثيرين يظل أملهم وحلمهم تحقيق أدائها، وبخاصة بعد أن تيسر الآن للكثيرين أداء العمرة، وهي ذات تكاليف أقل، لكن يظل الحج هو الأكثر نفقة، والأصعب من حيث الإجراءات سواء المالية، أو المشاعر التي تؤدى، وهي ذات جهد بدني أيضا، ولذا يصعب على البعض أن يقوم بتأديته، وبخاصة من الناحية المالية.

إعلان عن قرض للحج

ويفكر الكثيرون من المسلمين البسطاء في ادخار مال للحج، بل أحيانا يضطر بعضهم بعد أن يقدم على (القرعة)، ويأتي دوره للذهاب، أن يقترض المال ليذهب، فمنهم من يقدم قبل أن يمتلك التكاليف كاملة. ومؤخرا أعلنت المواقع الإخبارية في مصر عما سمي: قرض الحج، وهو عرض كالتالي: قرض حج بفترة سداد على عشر سنوات، بفائدة تبدأ من 16%. ولذا يأتي السؤال هنا: هل يجب على المسلم الذي لا يملك تكاليف الحج، أن يقترض ليحج، بعيدا عن قضية القرض بفائدة، فهي قضية أخرى هنا، فلو كان القرض حسنا، أي أنه بلا فائدة، فما الحكم هنا؟ هل الحج على القادر ماديا، أم أنه عليه أن يسعى للادخار، أو القرض لكي يحج؟

علينا أن نفرق بين عاطفة الحب للمشاعر المقدسة، وهي عاطفة مشروعة، فكل منا يهوى قلبه الذهاب إلى هذا المكان الطاهر، ولتأدية الفريضة التي يرجع منها كيوم ولدته أمه من ذنوبه، كما قال صلى الله عليه وسلم. ولكن الأحكام الفقهية والشرعية لا تؤخذ بعواطف الناس، فالسعي للحج، سعي مشروع، لكن الله عز وجل لم يكلف الناس في هذا السعي بما لا يطيقون، ولا بما يتعارض مع أساسيات حياتهم.

الحج مشروط بالاستطاعة

فالله عز وجل قال عن الحج: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} آل عمران: 97، فالفريضة هنا مرهونة بالاستطاعة، وقد فسرتها أحاديث ونصوص وفقهاء، بأن الاستطاعة هنا، هي: الزاد والراحلة، والقدرة، فالزاد: أي ما يكفيه للرحلة من طعام وشراب ونفقة، والراحلة، أي ما يحمله للحج، أو وسيلة الانتقال، ولو كانت أقدامه إذا كانت المسافة قريبة وكان من أهل المكان، والقدرة أي قدرته البدنية على الحج.

وقد فسروها بالاستطاعة في زمانهم، وقد تزداد في زماننا ويضاف إليها الحصول على تأشيرة الحج، أو القرعة، ويضاف إليها أن يكون الذهاب للحج آمنا بالنسبة لمن يحج، سواء على الحجيج بوجه عام، أو عليه بصفة خاصة، فقد يمتلك الإنسان المال، والصحة، وكل المقومات، ولكنه لا يوافق له على التأشيرة، سواء بسبب أو بغير سبب، وقد يأتيه كل ذلك، لكنه يكون لديه مانع أمني، وهو ما يحدث لبعض الناس في كثير من بلدان العالم، سواء لشبهة صحيحة، أو غير صحيحة، فكل هذه تدخل في دائرة الاستطاعة، وقد جدت في زماننا.

ارتفاع الفريضة عمن لا يملك مالا للحج

فمن لم يكن لديه المال ليحج، فليس مكلفا بأن يقترض ليحج، ولا يجب عليه ذلك، لأن شرط وجوب الحج عليه لم يتحقق، فمثله كمثل المريض الذي لا يستطيع الوضوء، فالطهارة واجبة عليه، لكن شروطها لا تتحقق فيه، فهنا يتيمم، وكذلك أحكام كثيرة في الشرع فيما يتعلق بالقدرة المالية، كالزواج، والجهاد، والزكاة، فمن لم يملك القدرة المالية لأداء هذه التكاليف، فقد رفع عنه حكمها، حتى يستكمل شروطها، وليس واجبا عليه الاقتراض، أو أن يشق على نفسه.

القرض على حساب الأسرة إثم

بل رأينا فقهاء الإسلام يفهمون من قوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}، أن الإنسان ليس مكلفا بأن يشق على نفسه بالاقتراض، ولا بأن يأخذ من قوت أبنائه سواء في الحال، أو في المستقبل، فمن يقترض مالا لا يمكنه سداده قريبا، سيؤثر في حال أبنائه وحياتهم من حيث المأكل والمشرب والحياة وضروراتها، وقد اعتبر الإمام الماوردي أن هذا الشخص مضيع لمن يعول، فقال: “وإن عدم ‌الزاد ‌والراحلة جميعا، فله حالان:
أحدهما: أن يكون ذا صنعة يكتسب بها قدر كفايته، وكفاية عياله، ويفضل له مؤونة حجه، فعليه الحج لأنه يتعلق بما فضل عن الكفاية، وقد فضل.
والحالة الثانية: أن لا يكتسب بصنعته قدر كفايته، ومتى اشتغل بالحج أضر بعيلته فلا حج عليه، ومقامه على عياله أولى لقول النبي صلى الله عليه وسلم: كفى المرء إثما أن يضيع من يقوت”.

لا يجب على المسلم الاقتراض للحج

وقد رأينا الفقهاء يفتون بعدم وجوب الاقتراض للحج، فقال المالكية: “من لا يمكنه الوصول إلى مكة إلا بأن يستدين مالا في ذمته، ولا جهة وفاء له. فإن الحج لا يجب عليه لعدم استطاعته. وهذا متفق عليه”.

وقال الشافعية: “إذا كان قادرا على أن يستقرض ما يحج به.. لم يجب عليه الحج؛ لأنه غَيْرُ مالك للزاد والراحلة، ولأنه إذا استقرض.. صار ذلك دينا في ذمته، والدين يمنع وجوب الحج عليه”.

وهو نفس ما ذهبت إليه المذاهب الشيعية فقال الإمامية: “لا يجب الاقتراض للحج إذا لم يكن له مال. وإن كان قادرا على وفائه بعد ذلك بسهولة لأنه تحصيل للاستطاعة وهو غير واجب”، وكذلك معظم المذاهب الفقهية ذهبت إلى نفس القول.

ما يكفي الحاج وأسرته في غيابه

بل إن الفقهاء بينوا أن من القدرة المطلوبة هنا، أو الاستطاعة المالية، أن يمتلك المسلم نفقة الحج ذهابا وإيابا، فلو امتلك مالا للذهاب ولم يملك مالا للإياب، لم يجب عليه الحج، ولا يقترض لذلك أيضا، وعليه أن يمتلك ما يكفيه للنفقة في رحلته، وما يكفي أسرته في غيابه، وكل من يجب عليه نفقته، من والدين، أو من يجب نحوهم التزام مادي عليه، وهو ما فصل القول فيه من الفقهاء المعاصرين العلامة الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، مفتي مصر وشيخ أزهرها الأسبق، في فتاوى دار الإفتاء المصرية.

القرض يمنع وجوب الحج

بل إن من الفقهاء من التفت إلى معنى مهم جدا، يغيب عن بعض من يتعرضون للفتوى، كما رأينا للأسف فتوى لأحد أمناء الفتوى بدار الإفتاء المصرية، يجيز القرض البنكي وهو بالفائدة، ويدافع عن ذلك، وبغض النظر عن الحكم الفقهي للفائدة، فقد غاب عنه معنى نبه إليه الفقهاء، وهو أن الحاج بالقرض، يكون قد سافر للحج مدينا، وهو ما يرفع عنه وجوب الحج، لأن الدين مانع من وجوبه عليه، كما ذكر ذلك الإمام العمراني الشافعي.

ليس مقصودنا هنا تشجيع الناس على عدم الحج، معاذ الله، بل المقصود أن يفهم الناس شرع الله على حقيقته، وليس بالعاطفة التي تدفع الإنسان لفعل ما يضره، وهو ما لم يوجبه عليه الشرع، فالشرع لم يوجب على الناس الاقتراض للحج، ولا لأي عبادة، ما دام لا يملك ما يكفي من المال، فكما لم يوجب عليك أن تقترض لتزكي، لم يوجب عليك أن تقترض لتحج، فالشرع جاء باليسر ورفع الحرج عن الناس، ولم يأت ليعيش الناس في عنت وضيق، ويقتر المسلم على نفسه وأبنائه، بدعوى أنه يدخر ليحج، أو يموت تاركا لأبنائه ديونا تقضى لأجل فريضة، لم تكتمل شروطها فيه، بل لن يحاسبه الله عز وجل عليها إن لم يؤدها ما دامت شروطها لا تتوافر فيه، فإن الذي أوجب الحج على المسلمين، هو سبحانه الذي وضع شروطا لأدائها، فالدين يؤخذ هنا كله متكاملا، مستمسكين بنصوصه، بعيدا عن العواطف التي قد تكون نبيلة، ولكنها تضيق على الناس.

المصدر : الجزيرة مباشر