أردوغان و فوز مريح بعد أسبوعين

لم يحدث أن تابعت شعوب العالم الانتخابات في دولة أخرى مثلما حدث ليلة 15 مايو/أيار 2023، إذ اتجهت الأنظار لمتابعة نتائج الانتخابات التركية، التي ظلت غير محسومة حتى ظهر اليوم التالي، عندما أعلن رئيس اللجنة العليا للانتخابات الإعادة على منصب الرئيس في جولة ثانية، وتأكيد فوز تحالف العدالة والتنمية بأغلبية مقاعد البرلمان.

لم تكن المنافسة بين رجب طيب أردوغان وكمال كليجدار أوغلو مجرد استحقاق انتخابي تركي على منصب الرئاسة، وإنما كانت صراعا متعدد الأبعاد احتشدت فيه الدول الغربية والدوائر الإقليمية الكارهة للإسلام للقضاء على زعيم حزب العدالة والتنمية، ووضع نهاية للتجربة الناجحة التي نهضت بتركيا خلال 20 عاما وجعلتها دولة قوية لها مكانتها وتأثيرها بين الدول الكبرى.

كانت الأعصاب مشدودة، وكان التوتر سائدا، فالنتائج المبهجة لأنصار أردوغان في بداية الفرز والتي وصلت إلى ما يقارب 60% من الأصوات وما تعنيه من الحسم في الجولة الأولى، بدأت تتناقص ثم تراجعت إلى 49.5% آخر الليل، ولكن جاء خطاب أردوغان في شرفة الحزب ليرفع المعنويات ويبشر أنصاره بالفوز في معركة البرلمان، وأكد أنه يحترم إرادة الشعب إذا اختار أن يكون الحسم على المنصب الرئاسي في جولة ثانية.

الفوز المستحق

رغم المعلومات المغلوطة التي سبقت الانتخابات واستطلاعات الرأي التي كانت تزعم فوز مرشح المعارضة من الجولة الأولى، ورغم تحريض الإعلام الغربي والمزاعم بنهاية عصر أردوغان جاءت النتائج النهائية للفرز صادمة لأنصار كليجدار أوغلو في الداخل والخارج، فقد حصل أردوغان على 27 مليون صوت مقابل 24.5 مليون صوت لمنافسه، أي أن الفرق 2.5 مليون صوت وهذا رقم كبير يجعل فرصة أردوغان في الإعادة أفضل.

كانت نتائج الانتخابات البرلمانية صادمة للأحزاب التي اصطفت خلف زعيم المعارضة، فحصول تحالف أردوغان على الأغلبية (322 مقعدا من 600) يعني فشل برنامج المعارضة في تعديل الدستور وإلغاء النظام الرئاسي وعودة النظام البرلماني، يعني كذلك عدم تنفيذ اتفاق تقاسم الحكومة بين قادة الأحزاب المتحالفة ضد أردوغان، بل خسر حزب الشعب نفسه كثيرا من مقاعده لصالح المتحالفين خاصة مطاريد العدالة والتنمية وحزب السعادة الذي يدعي أنه وريث نجم الدين أربكان!

لقد جدد الشعب التركي ثقته بحزب العدالة والتنمية، وعاقب الناخبون الأتراك كثيرين من الساسة المتطرفين العنصريين وحرمهم من دخول البرلمان وأنهى وجودهم السياسي، مثل حزب الظفر الذي يرأسه أوميت أوزداغ الذي يطالب بطرد المهاجرين، وهذه الخلخلة سيكون لها تأثير على الحماس وحشد الأنصار في جولة الإعادة.

سيسعى أردوغان سيدفعه خلال الأسبوعين للحفاظ على مؤيديه بذات الحماس والتنظيم والحشد، مع جذب المزيد من المؤيدين من أنصار المرشحين الآخرين سنان أوغان ومحرم إنجه (حوالي 3 ملايين صوت)، بل وأبعد من ذلك سيعمل قدر الاستطاعة على تفكيك جبهة خصومه بتعميق الخلافات بينهم ودفعهم لليأس، حتى ولو باستمالة السياسيين الأكراد المعتدلين الذين يشعرون بالصدمة من نتيجة الانتخابات وضياع الوعود بسبب فوز تحالف العدالة والتنمية بالأغلبية البرلمانية.

لا تحسبوه شرا لكم

بالتأكيد لو حسمت المعركة بين الطيب أردوغان وكليجدار أوغلو في الجولة الأولى كان أفضل، لكن رب ضارة نافعة، ففوز أردوغان بنسبة بسيطة في مناخ مشحون ووسط طبول الحرب التي رأيناها ربما لم يكن ليمر بهدوء، فهناك دوائر خارجية تعمل على تخريب تركيا والدفع نحو الصدام، مستغلة التطرف الكردي الانفصالي وغواية الطابور العلماني المتطرف الذي ازداد عدوانية بسبب المزاعم الإعلامية الغربية والترويج لنهاية أردوغان!

لقد رأينا قبل الانتخابات حالات من الجنون وفقدان العقل، لمن راودتهم أوهام استعادة الأتاتوركية المحاربة للدين، وشاهدنا فيديوهات مثل حوادث إطلاق نار على مؤتمرات انتخابية، ومحاولت متطرفة لخلع غطاء الرأس من محجبات، وانتشر فيديو شهير على مواقع التواصل لمواطن موتور في المترو، يسب شبان أتراك تبدو عليهم ملامح التدين ويطالبهم بمغادرة تركيا، وذهب للاعتداء على أحدهم باليد فكانت نهايته طريحا على الأرض فاقدا للوعي بعد أن تلقى الضربات، وسط ذهول الركاب من تصرفه.

كان الأتراك -ومعهم العالم الإسلامي- يتمنون الاحتفال بالفوز لكن تأجيل الاحتفال لمدة أسبوعين والحصول على نسبة مريحة أفضل بكل تأكيد، وسيكون بإذن الله تتويجا أسطوريا، ونهاية جيدة لهذه المعركة التي ينظر إليها العالم على أنها بداية للقوة العالمية للدولة التركية والتحول الاستراتيجي في العالم الإسلامي الذي سيكون له ما بعده في العقد القادم.

الدرس التركي للنخب في بلادنا

ما جرى في الانتخابات التركية درس مهم لكل السياسيين في العالم العربي، فلا وجود للكذبة التي دائما يرددها المستبدون في الحكم والمعارضة العلمانية، وهي الزعم أن الإسلاميين يستخدمون الانتخابات لمرة واحدة سلمًا يصعدون به للسلطة ثم يلقون به ويستبدون بالحكم، فها هو أردوغان الذي يزعمون أنه ديكتاتور ظل في بيته لآخر لحظة لا يعرف هل سيفوز أم لا، بل ظل حتى آخر خطاب له يعلن احترامه أصوات الناخبين.

طوال 20 عاما يفوز أردوغان وحزبه بأصوات الناخبين، ولم يحدث أن اشتكى خصومه من تزوير الانتخابات، فليس هناك طريقة لتشكيل نظام الحكم بغير طريق الصندوق الانتخابي، وحتى الانقلاب العسكري الذي كان دائم الحدوث في تركيا لم يعد ممكنا، وليس مرحبا به من كل التيارات السياسية، بعد فشل انقلاب 2016 ومحاكمة المتورطين فيه.

ليس معنى هذا أن من يتمسكون بثوابتهم وهويتهم ملائكة، فإذا أحسنوا يجدد الشعب الثقة بهم، وإذا فشلوا ينتخب الشعب آخرين غيرهم، وهذا يجعل السياسي الذي جاء بأصوات الناخبين خادما لمن انتخبوه، ويسعى لتحقيق مطالبهم ليستمر في منصبه، ولكن من يأتي بالتزوير أو بالتعيين فولاؤه ليس للشعب، وإنما لمن جاء به ووضعه في منصبه.

المصدر : الجزيرة مباشر