نظرية حِلْف الضِّرار “تحالف الأمّة في تركيا أنموذجا”

أحمد داود أوغلو

 

قد لا نكون في مُبْتَدَأ الأمر بحاجة إلى وضع نظرية قانونية ينبثق عنها تشريعٌ ملزم؛ لسببين، الأول: أنّ ما نُعَوِّل في حَسْمه على الجماهير الواعية لا حاجةَ بنا لتَقْنينه والإلزام به؛ فالأمّة عندئذ تمارس سلطانها المباشر عبر التصويت، الثاني: أنّ القانون لا يستطيع ضبط هذه المساحات إلا مع قدر غير يسير من القيود على الحرية السياسية؛ لذلك فإنَّ الأليق بنا أن نقف في النظرية عند إطارها الأخلاقيّ، إلى أن تتبلور رؤية قانونية تتسم بالتوازن والاعتدال، وهذا ما  يناسب الابتداء، فَلْنَمْض إلى هذه الغاية المتواضعة.

ما هو التحالف وما حكمه؟

لم يكن الأصل في التحالفات ما نراه اليوم من تحالفات انتخابية وقتية، إنّما كان الأصل هو التحالفات العسكرية، لكن نظرًا لتطور الحياة وتشابكها وقعت تدريجيًّا عملية استنساخ لهذه الفكرة في الحياة السياسية والاقتصادية وغيرهما، حتى ظهر أخيرًا ما يسمى التحالف الانتخابي، وهو صورة مؤقتة وهشّة من تحالف الأحزاب السياسية، وأصل الحلف في اللغة التعاهد والتعاقد على التناصر والتساعُد، وهو كذلك في الشرع، وفي القانون الدولي هو: “علاقة تعاقدية بين دولتين أو أكثر؛ يتعهد بموجبها الرفقاء المعنيون بالمساعدة المتبادلة في حالة الحرب”. والراجح شرعًا أنّ الأصل في التحالف الجواز ما لم يشتمل على ما لا يجوز، وأنّ العبرة فيه بالأمر المُتَحالَف عليه؛ فإن كان مصادمًا للشرع لم يَجُزْ، وإن لم يكن مصادمًا للشرع امتهد السبيل للقول بالجواز، بشروط، منها ألا يكون مُضِرًّا بمظلومين أو أصحابِ حق، فإن استوفى شروط الجواز لم يَلْتفت الشرعُ إلى هوية المتحالفين، والحكمُ ذاتُه ينسحب على أنواع التحالف كافّة.

ما حقيقة الضرار السياسيّ؟

والضرار السياسيّ هو “التوسل بالممارسة السياسية للإضرار بالحياة السياسية”، وهو معنى مستعار من التعبير القرآنيّ عن الضرار الدينيّ، الذي كانت تمارسه فئة منتسبة إلى الإسلام؛ اتخذت من مسجدها منطلقًا للعبث بالوعي الإسلاميّ وباستقرار المجتمع السياسي الإسلامي في المدينة: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (التوبة: 107)، وقد نُهِيَ المؤمنون عن الصلاة فيه، بل وأَمَرَ الرسول صلى الله عليه وسلم بهدمه، فلم يشفع للبناية أنّها اتُّخِذَتْ مسجدًا، ولا لمن قاموا فيها أنّهم كانوا مصلين؛ للمقصد الذي قامت الأدلة الظاهرة على فساده وبطلانه، وذلك تبعًا لقاعدة: (الأمور بمقاصدها).

ويقع الضرار بصور مختلفة، ويُنتج أثارًا ضارة في اتجاهات عديدة، فمن أضرار حلف الضرار خلْط وقلْب الأولويات العليا لمجموع السكان، وإرباك النظر إلى المصالح العامّة للمجتمع السياسي، والتشويش على عقول الناخبين، وتفويت الفرص النافعة للبلاد، وحرمانها من استقرار الحياة السياسية، مع حرمان الناخب من صفاء تفكيره واستقلال إرادته، وغير ذلك مما يضر في النهاية بالعملية السياسية وبسلامة التداول السلمي للسلطة، وحتى لا تقع أمثال هذه المضار الكبيرة يجب أن تكون التحالفات بين أحزاب بينها تجانس في الأفكار والبرامج، وبقدر ما تكثر المشتركات يكون التحالف أقوى وأجدى، وهذا في الواقع هو الغالب على التحالفات بين الأحزاب السياسية في الدول الحديثة، حتى عندما يولَد التحالفُ ولادةً متعسرةً كالذي وقع بين الجمهوريين واليمين في أمريكا، أو كالذي جرى بين اليمين واليمين المتطرف في إسرائيل وبعض دول أوربا؛ فإنّه يبقى أنّ هناك مشتركات لا تربك العقل العام.

لكن عندما يأتي التحالف على وجه غير مقبول عقلًا، بحيث تتحد الأضداد وتلتحم الأنداد، فهذا هو الخبال الذي يوقع الجماهير في فخ البلاهة، ويوقع العملية السياسية برمتها في جبّ التصويت الانتقامي الأعمى، وتتضاءل الغايات وتتقزم الطموحات وينخفض سقف النزاهة السياسية.

تحالف الأمّة التركي ذروة الضرار السياسيّ

قد يصيبك الذهول عندما تعلم أنّ المساحات المشتركة بين حزب العدالة والتنمية من جهة، وكل مُكَوّن من مُكَوّنات “الطاولة السداسية” المعارِضةِ له من جهة أخرى، أوسع بكثير من المساحة المشتركة بين أحزاب تلك الطاولة البائسة، إنّك لا تكاد تجد بينها ما يمكن أن تتفق عليه إلا مجرد إسقاط أردوغان وحزبه، وهل هذه بحدّ ذاتها غايةٌ سياسية رشيدة؟! وماذا بعد تحقق هذه الغاية؟ هل سينجح الحلف في الاستمرار وهو يجمع هذه التناقضات؟! وماذا لو وقع الخُلْفُ بينهم وهو أقرب إليهم جميعًا من أرجل الطاولة التي يجلسون عليها؟! أيمكن أن تمضي سفينة المجتمع في وسط هذا الخضم الهائج المائج ورُبّانُها كرأس أخطبوط متشعب؟! أم إنّ كبيرهم سَيَنْسِفُ الحلفَ ويَدَعُ الناخبين في إبلاس وإفلاس؟! أسئلة تضع الحلف في موضع الاتهام -بله الإدانة- وتصنف الناخبين كأعضاء دائمين في نادي البلاهة.

إنّ التحالف الذي لا يستهدف إلا السعي من خلال صناديق الاقتراع لإسقاط رئيس جاء بصناديق الاقتراع ليس إلا لعبًا بالآليات الطبيعية لتداول السلطة، إنّه ليس سوى انقلاب محض، وإن اتخذ من العملية الانتخابية ستارًا شفيفًا لا يكفي لإخفاء السوأة، لذلك لا تجد له من المشروعات والبرامج إلا تلك البنود الانقلابية في مضمونها وشكلها على السواء، التي بلغت من الوقاحة والصفاقة حدّ التصريح بما مفاده: تسليم البلاد بكل ما تحقق لها من إنجازات عسكرية وتصنيعية إلى الغرب المتربص!

الدلالات والمآلات

لا ريب أنّ أول ما يدل عليه هذا السلوك السياسيّ المنحرف هو إفلاسُ تلك الأحزابِ وعجزُها عن مجرد تقديم رؤية سياسية واقتصادية مقنعة للجمهور، ولا ريب كذلك أنّها تتخذ من الإعلام المدعوم بالمال الحرام مطيّةً لِتَبْلِيهِ الجماهير وتسهيل ابتلاعها للأوهام والأكاذيب، أمّا الزعيم الذي يسعون لإسقاطه وإنهاء حكمه، فإنّ أول دليل على نزاهته أنّهم يمارسون ما يمارسونه من النَّزق السياسيّ بحرّية تامّة، رغم قوّته المعروفة، ورغم أنّ البلاد قريبةُ عهدٍ بدكتاتورية واستبداد، وأقوى دليل على نجاحه وإخلاصه أنّهم لم يجدوا سبيلًا لإسقاطه إلا بالاغتيال المتخفي في رداء عملية انتخابية، فإن فازوا -لا قدَّر الله- فستدفع البلاد ضريبة باهظة، وإن خابوا فستكون كلفةُ إيجادِ معارضة رشيدة باهظةً أيضًا؛ فما أشقاهم! وما أشقى البلاد بهم!

المصدر : الجزيرة مباشر