في شوّال.. الجيش النّبويّ يخوض معركةً مصيريّةً انتقامًا لكرامة امرأة

عقب النّصر المبين للمسلمين في غزوة بدر الكبرى؛ أكل الغيظ والحسد قلوب وأكباد يهود بني قينقاع، فما عادوا يستطيعون كتم غيظهم وحسدهم فجاهروا بعداوتهم للمسلمين؛ فجمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إثر ذلك في سوقهم بالمدينة ونصحهم، وحذرهم من عاقبة كعاقبةِ قريشٍ في بدر، غير أنّ ردّهم جاء معبّرًا عن نفسيّة حاقدة فكلّموا النبي صلى الله عليه وسلم بطريقة مغرقة في العنجهيّة والإسفاف وأعلنوا التّحدي وشرعوا في التهديد رغم أنّ المفروض أن يعلنوا الطاعة والمتابعة لبنود المعاهدة التي وقعوها معه صلى الله عليه وأقرّوا له بالرئاسة عليهم بموجبها.

لقد قالوا بروحٍ متمرّدة حاقدة: “يا محمّد؛ لا يغرّنّك من نفسك أنّك قتلت نفرًا من قريش كانوا أغمارًا لا يعرفون القتال، إنّك لو قاتلتَنا لعرفتَ أنّا نحن النّاس، وإنك لم تلق مثلنا”.

هكذا بدأت الأحداث تتصاعد وتتفاعل إذ إنّ ردّهم كان يشير بشكلٍ واضحٍ إلى بداية التحلّل من المعاهدة والانقلاب على الاتفاقات وإعلان الاستعداد للقتال، وفي هذا المشهد الذي يتكرّر على مرّ الزّمان أنزل الله سبحانه وتعالى فيهم وفي أمثالهم قوله في سورة آل عمران: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأبْصَارِ}.

الاعتداء على كرامة امرأةٍ سببٌ مباشر للمعركة

كان يهود بني قينقاع يسكنون داخل المدينة في حيّ وحصنٍ باسمهم، وكانوا صاغةً وحدّادين وصنَّاعًا للأواني، وكانوا أيضًا صُنّاعًا للسّيوف والرّماح والأسلحة، وكانوا أكثر يهود المدينة قتالًا وأشجعهم في المواجهة؛ وقد بلغ عدد المقاتلين فيهم سبعمئة مقاتل.

يذكر ابن هشام الحادثة التي كانت سببًا مباشرًا لنشوب المعركة العسكريّة بينهم وبين النبيّ صلى الله عليه وسلّم فيقول: “إنّ امرأة من العرب قدمت بجَلَبٍ لها (أي ما يُجْلب للسّوق لبيعه من البضائع) فباعته في سوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغٍ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فَعَمَد الصّائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها ـوهي غافلةـ فلمّا قامت انكشفت سوأتها فضحكوا بها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصّائغ فقتله ـوكان يهوديًّاـ فشدّت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فوقع الشرّ بينهم وبين بني قينقاع”.

فنحنُ أمام حادثةٍ غير مسبوقة في شكلها وتوقيتها، امرأةٌ غريبةٌ عن حيّ بني قينقاع تمارس نشاطًا اقتصاديًّا خاصًّا بها ف ظلّ نظامٍ إسلاميّ كفل لها كامل الحريّة بذلك، وبعد أن تبيع بضاعتها ترغب في شراء قطعة ذهب فتذهب إلى صائغ وعنده ثلّةٌ من أصحابه؛ تشعر المرأة بأنّ نظرات ريبةٍ تلاحقها فتغطي وجهها في وقتٍ لم يكن الحجاب الذي هو غطاء الرأس مفروضًا أصلًا، ولكنّ المرأة بشعورٍ نفسيّ طبيعيّ عندما رأت نظراتٍ تظهر من بينها أنياب الذّئاب مارست حالةً دفاعيّةً بتغطية وجهها عمّن ينظرون إليه بسوء.

تمادى الصّائع فقام وهي قاعدةٌ تتفحّص بعض ما عنده من الذّهب فعلّق طرف ثوبها بأعلى الثّوب من جهة رأسها فلمّا قامت انكشفت عورتها فضحك القوم بكلّ دناءةً وهم يظنّون أنّهم بهذا يُنفِذون غيظهم وحقدهم على المسلمين.

وكأيّ امرأة تتعرّض لانتهاك عرضها، واستباحة كرامتها؛ صرخت هذه المرأة مستنجدةً ليسمع صرختها مسلمٌ من الأنصار كان في السّوق لبعض شأنه، فلمّا وصل وعلم القصّة فار الدّم في رأسه فقتل اليهوديّ المعتدي، فاجتمع عليه يهود بني قينقاع فقتلوه، وبلغ الأمر النبيَّ صلى الله عليه وسلّم فأعلن النفير العاجل وتعبئة الجيش الذي كان قد عاد منذ أيامٍ يسيرة من معركة كبيرة.

معركةٌ وحصارٌ وعقابٌ لأجل كرامة امرأة

في النّصف من شوّال من السّنة الثّانية للهجرة تحرّك الجيش النبويّ امتثالًا لقول الله تعالى في سورة الأنفال: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}؛ تحرّك الجيش الإسلاميّ لأجل كرامة امرأةٍ من عامّة النّاس تعرّضت لانتهاكٍ واستباحةٍ وإساءة لأنوثتها وكرامتها وإنسانيّتها، وعلى رأس هذا الجيش رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ويحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه؛ ولكَ أن تتخيّل كيفَ حرص الرّواة عبر التاريخ الإسلامي من لدن الصّحابة إلى اليوم على أن يخفوا في رواياتهم اسم المرأة التي تعرّضت لهذا الانتهاك؛ إنّها امرأة وكفى؛ فليس المهم من تكون، وليس المهم هي ابنة مَن أو زوجة مَن أو أخت مَن؛ يكفي أنّها امرأة ليتحرّك لأجل كرامتها الجيش النبويّ.

ثمّ إنّ تداول اسمها سيؤذيها وسيكون له أثر نفسيّ سيّئ عندها، فأخفى الرّواة اسمها إكرامًا ومراعاةً لها.

وبعد حصارٍ استمرّ أسبوعين كاملين يرضخ يهود بني قينقاع ويعلنون استسلامهم، وبعد مواقف بين النبيّ صلى الله عليه وسلّم وعبد الله بن أبيّ بن سلول تكون خاتمتهم وعقوبتهم الإجلاء من المدينة بل من جزيرة العرب كلّها وينتقلون إلى وسط بلاد الشّام ليستقرّوا في أذرعات بقيّة حياتهم.

لك أن تتخيّل كيف كانت تلك المرأة التي تطاول عليها المجرمون من يهود بني قينقاع واستباحوا كرامتها، وكلّ امرأةٍ من نساء المدينة وهنّ يتابعن مشهد وأخبار الجيش النبويّ وهو يسيرُ ويحاصِر ويعاقب ويؤدّب بكل قوّة وعلوّ وعزّة من فكّروا في التطاول على كرامة امرأة.

لك أن تتصوّر حجم السّعادة والشّعور بالفخر والعزّة وتحقيق الذّات الذي عاشته النساء في المدينة تلك الليلة وهنّ يرين من امتدّت أيديهم إلى واحدةٍ منهنّ بالسّوء وهم يغادرون بكلّ ذلّ وهوان.

ولكَ أن تتخيّل كم هنّ النّساء في يومنا هذا اللّواتي تتوق أرواحهن إلى هذا المشهد ليصبح واقعًا متكرّرًا لا محض ذكرى تثيرُ الفخر حينًا وتستنفر أوجاع الحاضر في حقّ المرأة أحيانًا أخرى.

المصدر : الجزيرة مباشر