الانتخابات التركية.. قراءة في مواقف الأحزاب “الإسلامية”

حزب السعادة

 

تشكل مواقف الأحزاب “الإسلامية” في تركيا ملمحًا واضحًا من ملامح السباق الانتخابي، إذ استطاعت أن تحتل مكانة متقدمة في النقاشات الداخلية رغم أنها لا تحظى بنسب تصويتية عالية، وذلك بسبب الاصطفافات المتباينة التي اختارتها هذه الأحزاب، وبعض هذه الاصطفافات يتناقض بل ويتصادم مع ثوابتها السياسية والأخلاقية.

وإذا ما استبعدنا حزب العدالة والتنمية الحاكم بطبيعة الحال، الذي يحكم تركيا منفردًا منذ أكثر من عشرين عامًا، ويصنف ضمن أحزاب يمين الوسط، ويضم أطيافًا من الإسلاميين والقوميين والليبراليين بنسب متفاوتة، كما أن حزبي المستقبل الذي يترأسه أحمد داود أوغلو، والديمقراطية والتقدم (ديفا) الذي يترأسه علي باباجان يصنفان أنفسيهما حزبين ليبراليين.

لذا فحديثنا سيتركز على ثلاثة أحزاب وهي هدا بار (الدعوة الحرة)، والرفاه من جديد، والسعادة.

هدا بار هل يصنع الفارق بين الأكراد؟

أُسس حزب هدا بار أو الدعوة الحرة نهاية عام 2012، وينتمي مؤسسوه عرقيًا إلى الأكراد، ويصنفون إيديولوجيا إسلاميين محافظين لذا يوصف الحزب عادة بأنه حزب كردي إسلامي، إذ يؤكد الحزب في أهدافه على “إحیاء القیم الإسلامیة والإنسانیة، والحیلولة دون محاولة إفراغ محتوى ھذه القیم”.

يعاني الحزب من أزمة لا يزال يعمل على تفكيكها، إذ ارتبط اسم الحزب في الإعلام بتنظيم مسلح ظهر في الثمانينيات بدءًا من إسطنبول قبل أن ينتقل إلى ولايات الجنوب الشرقي حيث تركزت معظم أعماله المسلحة ضد تنظيم حزب العمال، وعرف باسم “حزب الله”.

أُسس “حزب الله” رد فعل “إسلامي” في مواجهة أعمال تنظيم بي كا كا الماركسي اللينيني، الذي تورط في مهاجمة القرى الكردية داخل تركيا، واستهدف بصفة خاصة معلمي القرآن الكريم وأئمة المساجد، فكانت هجمات “حزب الله” ردًا على تلك العمليات، فقد ورد في لائحة الاتهام التي أعدها مكتب المدعي العام لمحكمة أمن الدولة في ديار بكر عام 2000 بخصوص مقاتلي حزب الله، أن “حزب الله ظهر كرد فعل على أعمال العنف والإرهاب التي كانت شائعة في زمن الحرب. حيث كان تنظيم بي كا كا الإرهابي مسيطرًا في منطقة جنوب شرق الأناضول”.

كما اتهم تنظيم “حزب الله” باغتيال قائد شرطة ديار بكر جعفر أوكان في يناير 2001، واعتقلت قوات الأمن قرابة 26 عنصرًا من التنظيم ومحاكمتهم إلا أنه تم الإفراج عنهم بعد سنوات، وانتهى الأمر باختفاء الحزب نهائيًا تحت وطأة الملاحقات الأمنية لقياداته وعناصره.

لكن ومع إعلان حزب “هدا بار” تأييده لأردوغان، بدا أن ثمة حملة منسقة من إعلام المعارضة استهدفت الحزب، من خلال إثارة علاقته بتنظيم “حزب الله” وأفكاره والعمليات المسلحة المنسوبة إليه، والترويج لوجود تلك العلاقة.

لكن الحزب نفى نفيًا جازمًا أي صلة للحزب بالتنظيم، مؤكدًا أن أيًا من مؤسسيه أو أعضائه ليس متورطًا في أي عمل إرهابي.

حملة الدعاية السوداء التي استهدفت الحزب، أتاحت له الفرصة للظهور الإعلامي المكثف، حيث نجح متحدثو الحزب، وفي مقدمتهم رئيس الحزب زكريا يابجي أوغلو، في ترميم صورة الحزب وإعادة اكتشافه مجددًا في الشارع التركي من خلال التركيز على عدد من المضامين:

  • تأكيد وحدة الأراضي التركية ورفض أي مشاريع انفصالية وخاصة التي يروجها تنظيم بي كا كا الإرهابي بالتعاون مع القوى الخارجية.
  • إعلاء قيم الأخوة الإسلامية التي تجمع المكونات العرقية للدولة التركية واعتبارها سياجًا ضد مخططات التفتيت والتقسيم.
  • إدانة الأعمال الإرهابية بجميع أشكالها، والتركيز على حماية الأسرة -باعتبارها النواة التي يتشكل منها المجتمع- في مواجهة محاولات تطبيع المثلية الجنسية.

وفي تقديري أن الحزب نجح في حملته الإعلامية خلال الفترة الماضية، وجاءت كثير من التعليقات على مواقع التواصل مشيدة بخطاب الحزب المتزن، الذي يراعي وحدة الأراضي التركية، ويستجيب لحساسياتها الأمنية.

هذا النجاح الإعلامي رفع أسهم الحزب في المحيط الكردي، المعروف بطبيعته المحافظة، الأمر الذي من شأنه أن يؤثر إيجابيًا في نسب التصويت الممنوحة للرئيس أردوغان من ولايات الجنوب الشرقي، خاصة أنه من الصعوبة بمكان أن يكون كليتشدار أوغلو هو الخيار الأكثر رواجًا لدى الناخبين الأكراد خاصة الشرائح العمرية الكبيرة، التي عاصرت عهد ما قبل أردوغان والعدالة والتنمية، وتدرك جيدًا قيمة الامتيازات التي حصلت عليها الآن في مجال الحريات واحترام الثقافة واللغة الكردية، والجهود التي بذلت خلال العشرين سنة الماضية لإنهاء مظاهر التمييز العرقي.

كما أن وجود الحزب قد يسهم في رفع عدد المقاعد التي يحصل عليها حزب العدالة والتنمية من المناطق الكردية، إذ أعلن الحزب أنه سيخوض الانتخابات، على قوائمه.

وبصفة عامة فإن حزب هدا بار قد يصبح مفاجأة هذه الانتخابات، وقد يلعب دورًا مهمًا في ترجيج كفة أردوغان وتحالف الجمهور في مناطق كان ينتظر منها أن تكون سببًا في خسارته، كما يخطط تحالف الأمة المعارض.

حزب الرفاه من جديد.. وإعادة التموضع السياسي

تم تأسيس الحزب في نوفمبر 2018 على يد محمد فاتح أربكان، نجل الرمز السياسي الإسلامي الكبير، نجم الدين أربكان، أو كما يطلقون عليه “أبو الإسلام السياسي”، وذلك إثر انشقاق فاتح أربكان على حزب السعادة بعد خلاف بين الطرفين، فاتجه إلى تأسيس الحزب واختار له اسم “الرفاه من جديد” كونه امتدادًا لحزب الرفاه الذي أسسه والده عام 1983 قبل أن يتم إغلاقه عام 1998 إثر انقلاب 28 فبراير/شباط المعروف.

بدا حرص أردوغان واضحًا في ضم الحزب إلى تحالف الجمهور رغم أن نسبته لا تتعدى 1% وفق سياسة يعمل عليها أردوغان منذ وقت طويل ترمي إلى تأسيس جبهة موحدة لليمين (المحافظ والقومي) لكونها صمام أمان الأمن القومي التركي في مواجهة التحديات الأمنية البالغة الدقة التي تحيط بالدولة، وأبرزها مخاطر التقسيم والتجزئة.

كما أن الحزب باسمه واسم رئيسه يشكلان رمزية مهمة يحتاج إليها أردوغان في جذب أصوات المحافظين، إذ يعيدان إلى المخيال الجماعي للمحافظين الأتراك ذكريات حزب الرفاه ومؤسسه نجم الدين أربكان ونضاله المعروف في مواجهة الأوليغارشية العسكرية، الذي كان سببًا لدخوله السجن أكثر من مرة، وإغلاق ثلاثة أحزاب أسسها وترأسها وهي السلامة الوطني والرفاه والفضيلة.

من هنا كان إصرار أردوغان واضحًا على ضم الحزب إلى التحالف، فأبرق نائب رئيس حزب العدالة والتنمية، بن علي يلدريم، رفقة القيادي في الحزب، إحسان يافوز للقاء فاتح أربكان، حيث أدلى الجميع بتصريحات إيجابية عقب اللقاء، فُهم منها أن الحزب بات قوسين أو أدني من الالتحاق بتحالف الجمهور، لكن وبعد مشاورات داخلية، أعلن الحزب ترشيح فاتح أربكان لانتخابات الرئاسة، وخوض الانتخابات البرلمانية بقائمة منفردة بعيدًا عن تحالف الجمهور.

وعقب تقدم فاتح أربكان بأوراق ترشحه للانتخابات الرئاسية، وتدشين حملة لجمع 100 ألف توقيع المطلوبة، فوجئ الرأي العام بإعلان الحزب موافقته على الانضمام إلى تحالف الجمهور، وسحب ترشيح فاتح أربكان لصالح دعم أردوغان، وذلك عقب لقاء جمع بين الطرفين.

هذه الانتخابات ربما تعد انطلاقة فعلية للحزب صوب إعادة تموضعه في الساحة السياسية، وعليه أن يستغلها جيدًا في ظل تحالفه مع حزبين قويين مثل العدالة والتنمية والحركة القومية.

كما أن فاتح أربكان يمكنه أن يحتل مساحة مهمة في الساحة السياسية التركية خلال السنوات القادمة شريطة أن يطور من أدائه النازع صوب النخبوية، ليتمكن من الاقتراب من المواطنين.

حزب السعادة إذ يفقد البوصلة

وفيما يتأهب حزبا هدا بار والرفاه من جديد لحصد مزيد من المكاسب خلال الفترة المقبلة، فإن حزب السعادة يبدو وكأنه فقد البوصلة، ليس بسبب تحالفه السياسي في حد ذاته، بل في عدم قدرته على شرح الأهداف من التحالف والمكاسب التي سيجنيها الحزب من هذا التحالف.

ففي وقت سابق كانت السردية تتحدث عن 20 مقعدًا سيتحصل عليها الحزب، لكن بعد أن جرى الماء في النهر وضمن كليتشدار أوغلو ترشحه عاد الحديث مجددًا عن 3 مقاعد فقط!

هذه الضبابية أدت إلى فشل الحزب في إقناع قاعدته الانتخابية المحافظة بقيمة هذا التحالف، الأمر الذي انعكس على رفض قطاعات ليست بالقليلة من تلك القاعدة لهذه السياسات التي رأوها خروجًا على قيم الحزب ومبادئه الإسلامية.

أبرز الاعتراضات صدرت من لجنة “هيمانا” التي تضم أسماء بارزة في حركة المللي غوروش “الرؤية الوطنية” التي أسسها أربكان نهاية الستينيات لتكون مظلة جامعة لمنظمات وأحزاب إسلامية.

اللجنة أصدرت بيانًا في 9 مارس الماضي استنكرت فيه سياسات حزب السعادة الأخيرة، ورفضت المسار الذي سلكه الحزب بدعم ترشيح كليتشدار أوغلو، مؤكدة عدم الاعتراف بذلك القرار، ومشيرة إلى أن قرار الحزب ليس ملزمًا للحركة.

كما أدانت اللجنة تحول حزب السعادة “إلى مقر للأحزاب التي حاربت معتقدات وقيم وثقافة وتاريخ الأمة التركية وألحقت ضررًا كبيرًا بها”.

معاناة الحزب لم تتوقف عند الجانب السياسي، بل امتدت إلى المأزق الأخلاقي الذي بات يعاني منه إثر طرح بعض حلفائه في الطاولة السداسية أو الداعمين لهم من خارج التحالف أجندات تتصادم مع مبادئ الحزب وأسسه القيمية الأخلاقية، خاصة فيما يتعلق بملفات الجندر والمثلية الجنسية وإعادة العمل باتفاقية إسطنبول وإعادة مسجد آيا صوفيا متحفًا من جديد أو على الأقل جزء منه، كما صرح رئيس الحزب تمل كرامولا أوغلو نفسه بذلك.

وفي الختام..

يلزمني التأكيد مرة أخرى أنه بالرغم من ضعف النسبة التصويتية للأحزاب الثلاثة إلا أنه لا يمكن التفريط فيها إذ يمكنها أن تصنع فارقًا رئاسيًا أو برلمانيًا، كما سنعرف يقينًا ليلة الرابع عشر من مايو المقبل.

المصدر : الجزيرة مباشر