حكم السودان بين حميدتي والبرهان

لا نجاة لأهل السودان إلا بإخراج حميدتي من المشهد، ومحاسبته على هذا التمرد، وإفشال مشروع الحكومات التي تستثمر فيه

كتبت مقالات عدة عن السودان الفريد، في طبيعة شعبه، وتنوع أحزابه، وسبقه الثوري، واختلاف تياره الإسلامي، وأينما يممت وجهك قبل السودان رأيت واقعا مغايرا ومشهدا فريدا، وأكثر ما يدلل على ذلك، الحالة السودانية الاستثنائية التي نتابعها الآن، أو ما يُعرف اختصارا بحرب حميدتي والبرهان، ويتجلى وجه العجب والغرابة في اختلاف طبيعة المعركة ومنطلقاتها، مقارنة بثوابت مثل هذه المعارك في البلاد العربية، التي يتركز الصراع فيها بين الحاكم العسكري المستبد الذي يسعى لتوريث الحكم وفق نظام الملكية العسكرية وتوارث الحكم بين أبناء الكتيبة، ومن يطالب برجوع العساكر إلى ثكناتهم وأصل وظيفتهم، وترك الحرية للشعب في اختيار من يحكمه، أما في السودان فإن الصراع نشب بين المكون العسكري نفسه، وفي زاوية الصورة هناك تيار مدني منفصل عن الواقع في أفكاره وتوجهاته، وينتظر مَن ينتصر مِن المعسكرين ليصل من خلال التحالف معه إلى الحكم، بإطالة أمد ما يُعرف بالفترة الانتقالية والاتفاق الإطاري، الذي يحرم الناخب السوداني من حق الاختيار لمدة عشر سنوات قادمة، وقابلة للتجديد بطبيعة الحال!

أحد جنرالات البشير

وتيسيرا على القارئ العربي، فإن عبد الفتاح البرهان هو أحد جنرالات الرئيس السابق عمر البشير، ثم تصدّر المشهد في الانقلاب عليه، وهو الآن قائد الجيش السوداني ورئيس مجلس السيادة، ومحمد حمدان دقلو المعروف بحميدتي هو فكرة عمر البشير، ومشروعه للتخلص من حركات الانشقاق والتمرد، ولا يحمل أي مؤهلات علمية أو عسكرية، وهو من أنشأ مليشيات مسلحة أطلق عليها قوات الدعم السريع، ومع أنه صنيعة البشير وكان يطلق عليه حمايتي وليس حميدتي، إلا أنه سلك مسلك البرهان نفسه، وتصدّر المشهد الثوري، وأصبح جزءا من القيادة ومجلس السيادة، وبعد اتفاق العساكر على إزاحة المكون المدني الذي لا جذور له في تربة السودان الطيبة، وهم انعكاس للأفكار المستوردة، رأى حميدتي أنه لا يفصله عن سدة الحكم إلا التخلص من البرهان وسيادته، فأعلن حربا تجهز لها، في الوقت الذي كان جيش البرهان على ثقة من حدوثها لكن باغتتهم المفاجأة.

لا خير البتّة للسودانيين في القتال الدائر، فالبرهان وحميدتي كلاهما يبحث عن الانفراد بالسلطة، وربما لو تأخر حميدتي لكانت المبادرة من البرهان، وكلاهما سعى للتطبيع مع ‎إسرائيل، لأنها الطريق الأقرب إلى قلب أمريكا، وإلى قادتها يحج كل طامع في السلطة أو راغب في الانقلاب أو التجديد، لكن من فقه النوازل أن نوازن بين المفاسد، ونسعى لتحقيق أرجى المصلحتين، وهذا يرجح كفة البرهان، لأنه عصب ‎الجيش السوداني ورأس مؤسسات الدولة، وتغلُّب عسكري مستبد، أقل ضررا من سيطرة بلطجي متعسكر، لا يعرف معنى الدولة ولا الحفاظ على مؤسساتها، وخبرته السابقة لا تخرج عن الاتجار في الأنعام، أو تكوين العصابات وزرع الألغام.

ردة فعل المجتمع الدولي

أما عن ردة فعل المجتمع الدولي بشأن القتال الدائر في السودان باعتماد غض الطرف عن حميدتي، وعدم اعتبار الدعم السريع فصيلا عسكريا تمرد على قيادة الدولة، أو انشق عليها، والتسوية بينه وبين القيادة، فهذا يطيل أمد الحرب، ويُشعر حميدتي بأن له شيئا من شرعية، كما يمهد لمشروع التقسيم واستقلال حميدتي بحكم دارفور، ودخول ‎السودان مرحلة جديدة من الانقسام والتشظي، وقد أوكل الغرب هذا الملف إلى معهد تخريج المتمردين في الوطن العربي لاستنساخ صورة جديدة من حفتر ليبيا داخل السودان، وأكد هذا محاولة حفتر إيصال الدعم المباشر إلى مليشيات حميدتي، بما أظهر أن كفيلهما واحد، بل وصل الأمر بحميدتي وأعوانه إلى مخاطبة جيش الاحتلال الصهيوني وطلب مؤازرته، لأنهما يخوضان معركة واحدة ضد “الجماعات الإسلامية المتطرفة”!

وأرى أن هذا التصريح من المؤشرات على بداية هزيمة المتمردين وقطّاع الطريق، ومع ذلك انصبت جهود الدول لاستنقاذ رعاياها من أتون الحرب المستعرة، دون تفكير في استنقاذ شعب السودان من صراعات العسكر على كرسي الحكم، بل إن فريقي الحرب في السودان ‎(حميدتي والبرهان) يتسابقان في تأمين خروج الأجانب، ولا يبالون بدماء الأبرياء من أهل البلد، الذين عاشوا ليالي القدر تحت زخات الرصاص، وشهدوا العيد في تشييع الجنائز!

لا نجاة لأهل السودان إلا بإخراج حميدتي من المشهد، ومحاسبته على هذا التمرد، وإفشال مشروع الحكومات التي تستثمر فيه، ثم إلزام البرهان بتسليم السلطة إلى حكومة منتخبة بإرادة سودانية حرة، وبعيدا عن فكرة تقاسم السلطة مع كيانات مستوردة، لا يملك أصحابها بيوتا في السودان، وما زالت فواتير إقامتهم في الفنادق تُدفع من العواصم التي وفدوا منها.

هذه الصورة من صراع العساكر تؤكد أن أصحاب البيادة لا يشبعون من خمر السلطة، وأنها عندما تعبث برؤوسهم لا يفكرون إلا في الاستئثار بها، دون اعتبار لأرواح الأبرياء ومقدرات الشعوب، أو مصلحة الوطن، ويبقى المشير عبد الرحمن سوار الذهب عملة نادرة ومثالا لا يقاس عليه، لأنه يُمثل شذوذ القاعدة العسكرية.

المصدر : الجزيرة مباشر